قضايا وآراء

أحلام ذئب الطورانية… الأقذر

عبد المنعم علي عيسى : 

ظهرت حالة الاضطراب القصوى على أداء صانع القرار السياسي التركي في الآونة الأخيرة بشكل جلي كما لم يكن جلياً في السابق، تحت تأثير مجموعة من الضغوط لعل من أهمها إحساس أردوغان بأن حصيلة تورطه في الحرب على سورية ستفضي كما يبدو إلى صفر مكاسب وهو ما يراه مؤكداً عبر استمرار- وبقاء- نظام الرئيس بشار الأسد.
أفلتت الأعصاب الأردوغانية من عقالها تماماً وهو ما يمكن رصده عبر العديد من المحطات كالذهاب نحو ممارسة أعتى حملات التضييق على الصحافة التركية بما فيها تلك التي تصنف عادة على أنها حيادية، وكذلك الذهاب نحو حجب مواقع التواصل الاجتماعي عن الشارع التركي ومعهما حالة رفع الجهوزية القتالية للجيش التركي الذي استقدمه أردوغان مؤخراً إلى الحدود السورية- التركية، إلا أن ما كان لافتاً فعلاً هو حالة خروج الخطاب السياسي التركي عن أيقونته المكرورة باتهام الحكومة السورية بالوقوف وراء أي عمل تخريبي يمكن أن تتعرض له المصالح التركية، إذ لم تكد تمضي ساعة واحدة وقبيل أن تسحب الجثث من أرض الحادثة خرج إلينا داود أوغلو في أعقاب التفجير الانتحاري في سوروج 20/7/2015 ليعلن عن اتهامه تنظيم الدولة الإسلامية بالوقوف وراء ذلك التفجير على الرغم من أن هذا (التفجير) لم يؤذِ مصالح حزب العدالة والتنمية بل إنه من الممكن القول إنه قد حقق باقة من المكاسب السياسية على اعتبار أن الضحايا الـ/32/ كلهم كانوا من الأتراك والأكراد اليساريين الذين يمكن تصنيف عملية استهدافهم على أنها استهداف لحاضنة الدفاع عن عين العرب تلك التي لم يسمح أردوغان باستقدام البيشمركة إليها في أعقاب تعرضها لهجوم «داعش» أيلول 2014 إلا لإحداث توازن كردي- كردي فيما بينها (البيشمركة) وبين «حزب العمال الكردستاني».
لا تشير ردود الفعل التركية على حادثة سوروج التي تمثلت بقصف مواقع لداعش في قرية عياشة (ريف حلب) 24/7/2015 وتالياً قصف مواقع حزب العمال الكردستاني بالقرب من أربيل التي أبدى مسعود البرازاني «تفهمه» لها، إلى تغيير مفترض في طبيعة العلاقة بين أنقرة وبين داعش إذ لطالما كان أردوغان- ولا يزال- يرى أن الدور الإقليمي التركي ما كان له أن يتنامى ويتصاعد إلا على وقع ضربات داعش وقيامها باجتياح الموصل 10 حزيران 2014، تلك الرؤيا التي استدعت زيادة الرعاية التركية لداعش التي قابلته بأن قامت بتغليب (السياسي) على (الإيديولوجي) في ممارساتها كنوع من العرفان بالجميل وهو ما ظهر في تجنب استهداف ضريح سليمان شاه (30كم شمال شرق حلب) أسوة بالعديد من نظائره، وعليه فإن الأمر لا يبدو طبيعياً إذا ما ذهب (أردوغان) بيديه- وقدميه- إلى تدمير تلك الرافعة التي حملت الدور الإقليمي التركي إلى الدرجة التي كان يسعى إليها، إلا أنه من الممكن القول إن حالة التناغم القائمة بين الطرفين (أنقرة وداعش) لم تعد كذلك عندما بدأت هذه الأخيرة بالخروج عن الرغبات التركية في مواقع عديدة في كل من سورية والعراق على حد سواء.
إذا كان الإعلان عن المصالحة التركية- الكردية شباط 2013 قد اعتبر من أهم الأحداث أو التحولات الجارية في المنطقة فإن الإعلان عن وصول ذلك المسار إلى حائط مسدود لا يقل أهمية عن الإعلان الأول، الأمر الذي ذهب إليه حزب العمال في أعقاب توجيه ضربات جوية لمواقعه بالقرب من أربيل 24-25/7/2015 وما يميز ذلك الحدث (إلغاء الهدنة) على الرغم من تكراره لمرات عديدة منذ الإعلان عن تأسيس حزب العمال في العام 1984 حتى شباط 2013، هو أن هذا الأخير بات يمثل ثقلاً سياسياً وازناً في الحياة السياسية التركية إثر فوزه بثمانين مقعداً في الانتخابات التركية التي جرت مؤخراً 7/6/2015 وهو ما يعني بروز حقائق جديدة تقتضي تغييراً في الحسابات التركية المتعلقة بالصراع التركي- الكردي القائم منذ عقود.
استدعى الفشل التركي في استصدار قرار أممي بفرض منطقة عازلة داخل الأراضي السورية، الأمر الذي تكرر في محاولات الحصول على ضوء أميركي أخضر لقيام تلك المنطقة وهو ما أعلنت واشنطن مراراً وتكراراً عن رفضه وإن كان الموقف الأميركي الأخير قد شابه الغموض أقله حسب الرواية التركية، فقد صرح نائب رئيس الوزراء التركي بولند آرنيس في 22 تموز 2015 بأن المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس التركي مع نظيره الأميركي قد أفضت إلى توافق في الرأي بين الطرفين لتنفيذ عمليات مشتركة لاحقاً، استدعى ذلك الفشل إعلان أنقرة عن إنشاء منطقتين أمنيتين على الحدود السورية لمدة خمسة أيام تبدأ من 23 تموز، الأمر الذي يعني أحد احتمالين لا ثالث لهما: الأول هو أن تكون تلك العملية جس نبض تركياً للقلب الأميركي ووضعه على المحك لتبيان ردود أفعاله، والثاني وهو الأخطر بكثير هو أن تكون (أيضاً تلك العملية) أحد تداعيات اتفاق فيينا 14/7/2015، الأمر الذي شهدنا مثيلاً له في اليمن عبر استيلاء أنصار عبد ربه منصور هادي على مدينة عدن 21/7/2015.
وحدها المنطقة العازلة التي يجري الحديث عنها يمكن أن تنقذ أردوغان ومعه الدور الإقليمي التركي، فهي تعني من جهة إمكان استمرارية الحلم الأردوغاني، إذ إن قيامها سيعني منع الأكراد من السيطرة على تلك الجيوب الجغرافية التي تسيطر عليها الميليشيات المدعومة تركياً، الأمر الذي يضمن لأنقرة وصول دعمها إلى تلك المجموعات ومن جهة أخرى فإن أردوغان يرى أن المخاطر الناجمة عن التنظيمات الإسلامية المتطرفة هي أقل بكثير من المخاطر الناجمة عن الأكراد الانفصاليين.
في أثناء قيام أنقرة بدعم العديد من الميليشيات المسلحة التي تحارب الحكومة السورية منذ صيف العام 2011، عملت أيضاً على دعم تنظيم تركي متطرف يسمى سنجق حلب الذي يعتبر رديفاً للحركة القومية التركية التي تضع في أدبياتها السياسية وجوب «استعادة» جبل التركمان وحلب على اعتبار أنهما أراض طورانية، وهو ما يمثل حالة تماهٍ فكري تام مع ما يدور في ذهنية أردوغان وفي أعماقه يجد فيها هذا الأخير نفسه، وخصوصاً أن حزبه (العدالة والتنمية) تلوح في آفاقه مؤشرات انشقاق بزعامة عبد الله غل، الأمر الحاصل عاجلاً أم آجلاً بشكل مؤكد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن