قضايا وآراء

الأتراك والإيرانيون وتحولات «سايكس بيكو»

| أنس وهيب الكردي

لطالما صب العرب جام غضبهم على الاتفاقية التي عقدها جيمس سايكس وجورج بيكو ممثلا بريطانيا وفرنسا، إبان الحرب العالمية الأولى، بهدف إعادة تنظيم الولايات العربية في الدولة العثمانية.
كره العرب لهذا الاتفاق، الذي قسم منطقة الهلال الخصيب وأجزاء من الهضبة الأناضولية إلى مناطق نفوذ ما بين باريس ولندن، إلى الحد الذين منعهم من معرفة كره جيرانهم، الأتراك والإيرانيين، له.
بالنسبة للأتراك فكراهيتهم لاتفاق «سايكس بيكو» محسومة ولا نقاش حولها، وهي معروفة على نطاق واسع لقد سلخ الاتفاق المناطق العربية عن الدولة العثمانية، وقلص هامش الأمن بالنسبة لأنقرة حتى بعد انسحاب القوتين المستعمرتين من الدول العربية، ويعتقد كثير من الأتراك أن إخواناً لهم «التركمان» جرى دمجهم قسراً في الدول الناشئة في شمال سورية والعراق، وتهميشهم، وأكثر ما يحنق الأتراك أن المناطق ذات الفائدة الاقتصادية، مثل كركوك والبصرة الغنيتين بالنفط، والساحل السوري، تم انتزاعها من يد بلادهم.
أما الإيرانيون فلهم أيضاً أسبابهم الخاصة لاحتقار اتفاق «سايكس بيكو»، ويعتقد هؤلاء أن الاتفاق حرمهم من استغلال لحظة انهيار الدولة العثمانية التي وقفت لقرون حائلاً بينهم وبين نشر نفوذهم في الهلال الخصيب وبالأخص بلاد الرافدين، ليس ذلك فحسب، بل إن الاتفاق والهزيمة النهائية للدولة العثمانية أديا إلى استعمار بريطانيا العظمى للعراق، التي أعادت تنظيمه بشكل مناوئ للإيرانيين، مستغلةً في الوقت نفسه، انتدابها لبلاد الرافدين من أجل تعزيز وجودها في الخليج العربي وإيران نفسها.
وإن كانت الحرب العالمية الثانية قد أدت إلى تضعضع نفوذ البريطانيين والفرنسيين في المنطقة، فإن ممهداتها مثلت فرصة لا تتكرر أمام أنقرة من أجل السيطرة على لواء اسكندرون مستغلةً حاجة باريس إلى تأمين الحياد التركي مع تصاعد حدة التهديدات الألمانية في أوروبا، لكن تركيا امتنعت عن مطالبة إجراء مماثل في العراق نظراً لخوفها الدائم من قوة بريطانيا العظمى، أما الإيرانيون فلم يتمكنوا من تحصيل أدنى مكسب من الحرب العالمية الثانية، التي فرضت تقسيم بلادهم مناطق نفوذ ما بين البريطانيين والسوفييت.
وبينما كان النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط يتراجع تحت تأثير انهيار باريس أمام جيوش الزعيم الألماني أدولف هتلر، عزمت لندن على إعادة تنظيم المنطقة بالاستناد إلى الرابطة العربية، فدعمت القيادة المصرية في مسعاها لبناء جامعة الدول العربية، وهكذا، ورثت بريطانيا العظمى الحصة الفرنسية من الهلال الخصيب أي سورية ولبنان، مستبعدةً في الوقت نفسه الأتراك والإيرانيين عن الطاولة.
التسلل الأميركي والسوفييتي إلى الشرق الأوسط، زعزع استقرار البناء البريطاني، وتتالت الانقلابات على القوى السياسية القريبة من لندن في دول المنطقة، مدعومةً إما من الأميركيين أو السوفييت، إلى أن جاءت حرب السويس، ومثلت ضربة قوية للعهد البريطاني في الشرق الأوسط.
بخلاف لندن، كان لدى واشنطن رغبة جامحة في دمج تركيا وإيران بالمنظومة الإقليمية للشرق الأوسط الهش خوفاً من مصر عبد الناصر والاتحاد السوفييتي، واستندت الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي، إلى أنقرة لزعزعة استقرار سورية، لكن المشروع برمته فشل وكانت النتيجة الوحدة السورية المصرية، ولاحقاً إعدام الرئيس التركي عدنان مندريس بعد انقلاب عسكري حرضت عليه واشنطن.
بعد التخلص من رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، كرست الولايات المتحدة جهودها لبناء إيران كوكيل إقليمي عنها في منطقة الخليج العربي، ينافح نيابة عنها النفوذ السوفييتي، ومع انسحاب القوات البريطانية من الخليج العربي، رأى الشاه رضا بهلوي مستقوياً بالدعم الأميركي، أن بإمكانه تنظيم الضفة العربية من الخليج وفقاً لتطلعات إيران التاريخية، إلا أن الثورة الإسلامية عطلت خططه، وتقدمت الرياض مستغلةً انشغال غريميها الرهيبين، العراق وإيران في حربهما المديدة، بمشروعها لحشد دول الخليج تحت رايتها في مجلس التعاون الخليجي.
استبعدت واشنطن الإيرانيين والأتراك والأوروبيين، من الطاولة التي صممتها لتنظيم المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب تحرير الكويت، رداً على ذلك قررت طهران تعطيل الجهود الأميركية، بينما اكتفت أنقرة بتصعيد عسكري ضد سورية أثمر عن اتفاق أضنة.
مثلت إطاحة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الفرصة لأنقرة وطهران للمساهمة في تنظيم بلاد الرافدين، امتنعت الأولى بقرار من برلمانها، بينما شاركت الثانية، ومنذ ثورتها الإسلامية، وفرت طهران الدعم لعدة قوى عراقية، أضحت القوى الفاعلة في النظام السياسي لما بعد صدام، كما أنها وفرت دعماً مماثلاً لقوى لبنانية ويمنية وفلسطينية، تمثل أحجاراً صعبة التجاوز في ساحة بلدانها الأصلية أو في الساحة الإقليمية.
اليوم، مع تتالي المفاوضات الدولية لإعادة تنظيم الشرق الأوسط ما بعد داعش، يجد الإيرانيون والأتراك أنفسهم إلى جانب جيرانهم الروس، على طاولة سوتشي، التي انعقدت في ظلال اتفاقات وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف والرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، اتفاقات تبدو وكأنها ورثت اتفاق «سايكس بيكو».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن