ثقافة وفن

جريدة «الكلب» التزمت الشعر وسيلة للتعبير … يبدأ صدقي العدد عندما يخطر على باله أن يتناول الأحداث والأوضاع العامة بسخريته الفريدة

| سارة سلامة

صدر عن وزارة الثقافة، الهيئة السورية للكتاب، كتاب بعنوان «كلب صدقي إسماعيل.. ضحك كالبكاء»، إعداد عواطف الحفار إسماعيل، والمراجعة والتقديم لبيان الصفدي.
وتناول الكتاب صحيفة «الكلب» الساخرة التي أسسها صدقي إسماعيل في خمسينيات القرن الماضي، وكان يصدرها بخط يده ويوزعها على الأصدقاء، وحملت عنوان «الكلب»، لأنه وكما قال صاحبها إن الكلب هو «الكائن الوحيد الذي يحق له أن ينبح، من دون أن يلزمه أحد بشيء».
وضمت الجريدة قصائد لعدة شعراء إضافة إلى صدقي إسماعيل منهم الشاعر سليمان العيسى الذي أصدر في فترة لاحقة جريدة مماثلة حملت اسم «ابن الكلب» في مدينة حلب، ووهيب الغانم وأحمد إبراهيم عبد الله، ويحيى الشهابي، ونجاة قصاب حسن، وحسيب كيالي، وغازي أبو عقل.

ظاهرة أدبية لافتة

ومما جاء في تقديم الكتاب: إنه وعلى مدى عشرين عاماً أطلق الأديب الكبير المرحوم صدقي إسماعيل جريدته العجيبة الساخرة (الكلب) جريدة تكتب وتوزع باليد، مكتوبة شعراً كلها من الإعلان حتى الخبر والتعليق السياسي، وتصدر كيفما اتفق، لكنها كانت بحق ظاهرة أدبية لافتة، وأهم عمل شعري ساخر عرفته صحافتنا المعاصرة، وقد حرضت (الكلب) نخبة من نجوم الشعر الساخر، فساندوها، وأمدوها أحياناً بالمساهمات، ومنهم غازي أبو عقل وعبد السلام العجيلي ومنصور الرحباني وسليمان العيسى ونجاة قصاب حسن.
هذا الكتاب رحلة ماتعة تسجل مسيرة هذه الجريدة، وتقدم نماذج وافرة من عطائها الشعري، بقلم الأديبة عواطف الحفار، رفيقة درب صدقي إسماعيل، وشريكة حياته، والشاهدة الأقرب على نبضات قلبه الجميل.

صدقي
صدقي إسماعيل من أبرز المثقفين العرب الثوريين الذين قدموا من خلال كتاباتهم، ومن خلال الممارسة النضالية، إسهامات جدية في محاولة بلورة رؤية للثورة العربية المعاصرة، وتدور معظم كتاباته حول محور واحد هو الإنسان العربي وقضيته في العصر الحديث، مستعيناً برصيده الواسع من الثقافة العالمية المعاصرة، جمعت مؤلفاته بعد وفاته عام 1972 في ستة مجلدات، ضمت رواية (العصاة) ومجموعة (الله والفقر) و(العرب وتجربة المأساة) ورواية (الحادثة) وكتابه عن (رامبو) وكتابه عن (فان غوخ)، وعدداً من المسرحيات، (أيام سلمون) و(عمار يبحث عن أبيه)، إضافة إلى مجموعة من القصائد الشعرية، ولا ننسى الجريدة الفكاهية (جريدة الكلب)، التي كان يكتبها بخط يده، على نسخة واحدة بنقد لاذع سياسي واجتماعي وأدبي، وتوزع بين الأصدقاء، ولا أحد يعرف أين تستقر، وقد جمع منها ما أمكن، وصدرت في مجلد خاص.

جريدة الكلب
وهذا بعض مما قاله الشاعر سليمان العيسى عن الجريدة في عام 1981: بدأت جريدة «الكلب» في الصدور منذ أوائل الخمسينيات في فترات غير منتظمة، نسخة واحدة يكتبها صدقي إسماعيل بخط يده، ويرسم عنوانها، وينظم كل ما فيها شعراً ساخراً عميقاً لاذعاً، يستعرض فيها كل ما يخطر على باله من أحوال شخصية وقومية وسياسية وفنية.
يتداول أصدقاء الشاعر النسخة المخطوطة في دمشق وحلب واللاذقية وغيرها من المدن السورية، وربما انتقلت النسخة إلى الأقطار العربية الشقيقة، وتداولها الرفاق من بلد إلى بلد.. ولا يدري أحد إلى أين كانت تستقر معظم هذه الأعداد المخطوطة التي قلما ضربت على الآلة الكاتبة.. ولذلك لا يزال الكثير منها مفقوداً مع الأسف.
لم يكن لصدور «الكلب» أي موعد محدد، يبدأ صدقي العدد عندما يخطر على باله أن يتناول الأحداث والأوضاع العامة بسخريته الفريدة، وتعليقاته المعروفة، ترفده في كل ذلك ثقافة عميقة واسعة، في شتى أنواع المعرفة.
كتب صدقي الشعر بنوعيه: الساخر والجاد.. كما كتب المقالة الأدبية والدراسة والنقد والقصة والرواية والمسرحية، هذا الشعر الساخر الذي اختصت به جريدة «الكلب» لم يكن في الواقع إلا امتداداً للقصائد «الحلمنتيشية» التي كنا نكتبها بغزارة منذ كنا طلاباً في الثانوية، ونتخذها أسلوباً من أساليب التعبير عن التمرد والثورة على التجزئة والتخلف والفساد ودعوة إلى رفض الواقع وتغييره على امتداد وطننا العربي الكبير».

قصة جريدة الكلب
تفردت الجريدة التي تصدر في دمشق بين جميع الصحف والمجلات الفكاهية على امتداد الزمان والمكان العربيين بعدة أشياء:
أولها أنها صدرت من دون ترخيص، فقد بدأ صاحبها يخطها بخط يده من الألف إلى الياء، هو جالس على المقهى، ثم يوزعها على أصدقائه من دون ثمن ودون اشتراكات.
وضمت موضوعاتها (المقال الافتتاحي، المانشيت، المقال الرئيسي، الطقس، كلمة العدد، مقال في السياسة الدولية، مقال في السياسة الداخلية، يوميات رئيس التحرير، صورة العدد، الإعلانات.. وغير ذلك).
وتلك الصحيفة التي التزمت الشعر وسيلة للتعبير، وطوعته ليكون وعاء لكل المواد الصحفية، باقتدار بارع لم تخرج عن حدود الأوزان التقليدية القديمة، بل أكثر من ذلك كانت تميل إلى السخرية من الشعر الحديث وتتندر به.
وقد جمعت أعداد (الكلب) وصدرت مطبوعة طبعة فخمة في دمشق مصحوبة بتقديم واف، كتبه الشاعر الكبير سليمان العيسى.
وكان الشاعر سليمان العيسى فيما يبدو صديقاً لصاحب (الكلب) المرحوم صدقي اسماعيل، فنحن نجد في ديوانه (الديوان الضاحك)، قصيدة بعنوان (كنا في هلسنكي) يبدو منها أن سليمان العيسى كان عضواً في مؤتمر السلم العالمي الذي انعقد في هلسنكي عاصمة فنلندا في أواسط الستينيات فبعث بقصيدته تلك إلى جريدة (الكلب) باعتباره مندوباً لها في المؤتمر ولكن الشاعر يقول في مقدمة قصيدته وفي ثناياها أنه مندوب جريدة (ابن الكلب) بمقدمة تقول:
نحن في منتصف الليل هنا
وضياء الشمس في كل مكان
نحن عند القطب لا يفصلنا
عنه في الواقع إلا فشختان
إن فنلنــــــدا بــــلاد حلـــــــوة
وكثيرات بفنلندا الحــسان
وتقدم القصيدة عدة لقطات للمؤتمر كتغطية صحفية شعرية لوقائعه وفعالياته فتقول بعض مقاطعها:
جاءت «ابن الكلب» من سورية
كسواها لحضور المهرجان
أصدقاء السلم قد حلوا هنا
من أقاصي الصين حتى ميشغان
أشعار حلمنتيشية

لقد اعتبر النقاد أن جريدة «الكلب»، هي نموذج متميز من الشعر الحلمنتيشي، والشعر الحلمنتيشي هو لون من ألوان الشعر العربي، يعتمد على إدخال المفردات الشعبية في نسيج القصيدة الفصيحة، ويأخذ الشكل الكوميدي في الطرح، وقد ازدهر في مصر وسورية ولبنان، إذ اهتم به أكثر من صحيفة ومجلة مصرية، أما في سورية فلم ينتشر إلا عبر مجلة واحدة كانت (مجهولة) المؤلف وقتها، ولم تكن تطبع بكميات قصد التوزيع، إنما كانت تحرر على نسخة واحدة يتداولها الأعضاء، الأمر الذي أدى إلى ضياع الكثير من أعدادها بعد ذلك، هي جريدة الكلب، وكان لها فرعان في حلب وبيروت ومندوبها يسمى ابن الكلب، ويعتمد الشعراء في قصائدهم على طرح المشاكل الاجتماعية والإنسانية عبر قالب كوميدي فكاهي جميل يداعب الأحاسيس.

فن الإعلان في الكلب
الكلب كانت جريدة لا كغيرها، فهي أولاً شعرية.. ويعتقد أنه لا يوجد في العالم كله جريدة انتقادية ساخرة تكتب شعراً كلها، والمجلات التي يمكن تشبيهها بالكلب، (الكانار انشيني) الفرنسية، و(كروكوديل) الروسية تعتمد قليلاً على الشعر وكثيراً على الرسم (الكاريكاتور)، ثم على المقالات الانتقادية الساخرة، أما أن تكون مجلة بكاملها (على قلة عدد صفحاتها) مكتوبة بأبيات ذات وزن وقافية تعالج بها المواضيع كلها سياسية واجتماعية وفنية وأدبية، فهذا ما لم تختص به إلاها.
والطريف في المجلة إعلاناتها:
اشتروا شفرة الحلاقة ناسيت
فقد طالت اللحى في البلاد
أعلنوا عندنا فللكلب صوت
يتحدى وزارة الاقتصاد
قهوة الجــــــسر اقــــصدوها
دائماً فالكلـــب فيهـــــا
بالحبر قد كتبت جريدتنا
وغداً سنطبعها على الآلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن