ثقافة وفن

صناعة النقود والجهود العربية عبر التاريخ

| سوسن صيداوي

منذ البداية كانت المقايضة. لم يكن بال الإنسان في الماضي هانئا مرتاحا، لأن عليه أن يجد الطريقة التي ييسر بها أموره الحياتية والعملية، وعلى التحديد في الفترات السابقة للحضارة الإسلامية، حيث لم يكن التعامل التجاري أو عمليات الشراء والبيع بالميّسرة، فالمادة- والتي هي اليوم النقود- لم تكن موجودة، لهذا حلّت المقايضة- والتي كانت تتم بموجب مبادلة شيء بشيء آخر من دون أي تدخل نقدي، سواء أكانت مواد طبيعية إم أشياء صناعية، أو مواد نفعية، إضافة إلى المواد التي استُخدمت كنوع من الترف مثل المحاصيل الزراعية والماشية والخمور والزبد والملابس والمحارات وحتى الخدم، واستمر هذا الأسلوب في التعامل لفترات ليست بالهينة إلى أن ظهرت النقود. وللحديث أكثر عن السكوك النقدية بمراحل سكها والتعامل بها، يسعفنا الكتاب الذي صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والذي يحمل عنوان (المسكوكات النقدية السورية منذ الأصول حتى الفتوحات العربية الإسلامية)، من تأليف: د. خليل المقداد. الكتاب يقع في 590 صفحة من القطع الكبير، ويندرج ضمن البحث الموسوعي المطول، وهو عبارة عن نص وثائقي مهم يرصد كيفية التوصل إلى صناعة النقود ومعالجتها، وبيان ما صُوّر عليها من صور وأشكال، وتحديد قيمتها منذ بداية ظهورها، ودور العرب القدماء في بلاد الشام في اختراعها وسكها، وتصوير الميثولوجيا الخاصة بهم على وجهي القطع النقدية، منذ أقدم فترة إلى زمن الفتوحات العربية الإسلامية. ليس هذا فقط بل سعى المؤلف إلى الحديث عن مراحل سك هذه النقود النحاسية والفضية والذهبية وتداولها، على نطاق الإقليم وحوض المتوسط، مستأنسا في بحثه بعشرات الصور، وقد أفاد في إنجاز البحث من جهود الباحثين في دراساتهم وبحوثهم الأجنبية والمترجمة والمؤلفة بالعربية، مضيفاً إليها خبرته الميدانية الواسعة.

التعريف بعلم المسكوكات النقدية
عرف د. خليل المقداد في مقدمة كتابه علم المسكوكات النقدية شارحاً كيف تم إطلاق اسم السكة على الطابع أو الختم المعدني- الذي لم يكن بمقدور أي شخص عمل هذه الطابعات أو الأختام-المطروق به فوق المادة المعدنية المسكوبة في القالب لتشكيل النقد فوق الوجه الآخر للنقد، لافتاً إلى أن تسمية المسكوكات جاءت من عند الإغريق، وبأن الإلحاح للتوصل إلى صناعة النقود هو بسبب المعاناة التي كان يواجهها الإنسان نتيجة للمقايضة، متابعاً: «لقد أكدت نتائج الحفريات الأثرية التي تمت في سورية في المواقع القديمة، أن الأساليب التي كانت متبعة في عصور ما قبل التاريخ وقبل أن يعرف الإنسان نظام النقد المعدني كانت ترتكز إلى مبدأ المقايضة، وما أكد على ذلك العثور على بعض السلع في أماكن غير الأماكن التي أنتجت منها، وهذه السلع تعود إلى العصر الحجري القديم».

خلاصة الكتاب
خلص د. المقداد ضمن بحثه الموسوعي المطول لتوثيق صناعة النقود في سورية وتطورها عبر العصور، وعبر سبعة فصول، إلى الحديث عن كل ما توصل إليه المختصون في مجال صناعة هذه النقود، كما رصد تطورها وبيان قيمتها في كل عصر، مع تحليل التصاوير التي صورت عليها عبر الزمان. لذا يعد هذا البحث وثيقة مهمة تبين عبقرية الإنسان العربي في بلاد الشام وإسهامه الخلاق في الاقتصاد العالمي وبناء الحضارة الإنسانية. وحول الدراسة وكيفيتها قال: «كونت دراسة المسكوكات النقدية ضمن إطارها ومجالها الجغرافي وضمن تطورها التاريخي وظروفها المختلفة التي مرت بها وما أحاط بهذه المادة من مجريات من سك وتصنيع وغيره، علماً وتخصصاً ضمن منهجية ومقاييس دقيقة بدأت تقريباً منذ ولادة علم الآثار لتتعمق أكثر فأكثر بالترافق والتوازي مع تطور التقنية الفنية منذ أكثر من قرن من الزمن لكشف الحقائق الدقيقة عن هذه المسكوكات النقدية».

هدف الكتاب
غاية المؤلف من بحثه توضيح كيفية التوصل للصناعات النقدية ومن ثم تداولها واستخدامها في جميع المناطق التي أنتجتها وتعاملت بها حسب المراحل التاريخية التي ظهرت خلالها، وحصر الورشات النقدية التي أنتجتها، وإلقاء الضوء على الخبرات الفنية الرائعة التي كانت تتمتع بها هذه الورشات، والذوق الرفيع لدى الفنانين السوريين المشتغلين فيها وسعيهم لإظهار الهوية العربية الأصيلة على مر العصور. مشيراً د. المقداد إلى أهمية بحثه «في الحقيقة لم يخطر ببالي في يوم من الأيام تناول مثل هذا الأمر، ولكن الحاجة الماسة التي كنت ألمسها لدى الطلاب وخاصة طلاب الدراسات العليا الذين كنت أشرف على أبحاثهم، دفعتني إلى الخوض في هذا المجال، والتي أخذت مني جهداً لا يثمن خلال العديد من السنوات». متابعا بأن الدراسة تظهر أن عملية السك النقدي كانت تحتاج إلى طبيعة إدارية رسمية محكمة، من أجل تحديد المعايرة والميزات والصفات المهمة للنقد، وبأن جميع هذه الأمور كانت تحدد من مؤسسة خاصة سواء أكانت من مجلس مدينة أم سلطة إدارية إقليمية أو ملكية أو امبراطورية… إلخ. مضيفاً «هذه الأمور المهمة التي نقدمها لهذه الدراسة التخصصية تعتبر من العلوم المهمة والمساعدة لعلم التاريخ، ولم تكن هنا عبارة عن دراسة عامة، وإنما دراسة تخصصية ذات استقصاء مستفيض ومستوعب وشامل نذهب به إلى التعمق في المعرفة ضمن تنوعاتها المتنامية والمتتالية في الأشكال وفي جزئياتها، وفي الوقت الذي وجدت فيه التنوعات والتباينات التي تميز كل قطعة من الأخرى».
هذا وبالطبع لم يغفل المؤلف جانب التأثير والتأثر المتبادل مع الشعوب الأخرى التي أنتجت المسكوكات النقدية سواء أكانت شرقية أم غربية حتى منتصف القرن السابع للميلاد، وهو تاريخ انتهاء العلاقات والارتباط الاقتصاديين بالعالم الغربي واستقلالية الدولة ضمن الخلافة الأموية ومركزها دمشق. كما تطرق في كتابه إلى المعايير والأوزان في النظام البابلي والمناطق الفارسية والفينيقية والإيونية ونظام العملة الإغريقي، إضافة إلى فئات النقود في العهد الروماني، وأهمية المعادن في صناعة المسكوكات والمواد الخام التي صنعت منها العملات، مسلطاً الضوء على النقود المحلية السورية وتفاعلها مع المسكوكات الإمبراطورية الرسمية والمسكوكات النقدية التدمرية والنقود السورية في العصر البيزنطي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن