ثقافة وفن

مشكلة الإنسان في فكر ألبيركامو … فقدان الإحساس بجدوى الحياة والشعور بالضياع أمام الحرب

| آلاء جمعة

«هذا الطلاق بين الإنسان وحياته، الممثل ومشهده، هو بالضبط الشعور باللاجدوى».
في غمرة انشغال الناس في تفاصيل حياتهم اليومية يغرق آخرون في تفاصيل هذا الوجود وينبثق من رؤوسهم عدد لا متناه من الأسئلة التي تحاول البحث عن أسرار الحياة المتأبية عن البوح فإذا ما فلقت رأس أحد الفلاسفة لوجدت بداخله عوالم من إشارات الاستفهام والإجابات اللامكتملة فكانت الفكرة صاحبة ملازمة للفيلسوف ووجد نفسه يحمل هم العالم والإنسانية جمعاء وذهب في سماوات وجدانه يبحث عن ثقوب سوداء تدلفه لعالم المعرفة التي ما إن يلامسها حتى تتوارى خلف حجب الغموض الكثيفة.

فالإنسان وحقيقة وجوده والبحث عن معنى يبرر معاناته وآلامه المتواصلة في اللامعنى الذي يغطي حياته، كان مبحث الفلاسفة خاصة الوجوديين منهم منذ العصور القديمة إلى الآن في محاولة جادة لفهم هذا الكائن الاستثنائي والمعقد الذي يعيش التيه في كل لحظة من لحظات وجوده، هذا ما دعته الدكتورة سوزان عبد الله إدريس فجمعت في كتابها «مشكلة الإنسان في فكر ألبيركامو» أهم أفكار ألبير حول الإنسان وقضاياه المتشعبة، ألبير الفيلسوف والأديب الفرنسي الذي عانى ما عاناه من ويلات الحرب والتشرد واليتم والمرض التي دفعته لعالم يضج بالعبث واللاجدوى والكثير من المعاني التي وقفت عندها الكاتبة إدريس فكان كتابها الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب الواقع في 222 صفحة من القطع الكبير متضمناً ثلاثة فصول رئيسة.
تحدث الفصل الأول عن مشكلة الإنسان في القرن العشرين وتطور مفهومه منذ الفكر القديم مروراً بالفلسفة اليونانية والعصور الوسطى حتى الحديثة ثم عرضت لنا الكاتبة على وجه الخصوص أزمة الإنسان الأوروبي كون ألبير واحداً منهم في القرن العشرين قرن الحروب والقتل والدمار والتشرد وفقدان الإحساس بجدوى الحياة والشعور بالضياع أمام ما حدث وما جرته الحرب من مآس جردت الإنسانية من قيمها النبيلة، ثم ظهور بعد ذلك الآلة والتكنولوجيا الحديثة التي استعبدت الإنسان وزادت من إحساسه بالضياع وتآمرت على إنسانيته أيضاً ولاسيما تلك الأسلحة النووية التي تهدد وجود البشرية في أي لحظة، كل هذه المشاكل والأزمات انعكست على فلسفة ألبير وفنه وفكره وعمقت لديه الرغبة في معالجة اللامعقول الذي يعم الوجود أو الغثيان كما يسميه سارتر فكانت أفكاره وفلسفته وأسئلته الوجودية التي طرحها بمنزلة احتجاج على الأوضاع المؤلمة ورفض لها.
وفي حديثه عن مفهوم البحث الذي يسم جميع أعماله وفلسفته الوجودية الذي تناولته الكاتبة بشكل تشريحي مفصل في الفصل الثاني: «يرى كامو أن جميع الفلاسفة الوجوديين قد استقوا فلسفاتهم وأفكارهم من الواقع المملوء بالعبث والكآبة والملل وهذا دليل على تأثر فلسفة كامو في البحث بالفلسفات التي سبقته ولكنه بلورها وأضاف إليها وأقام بحثاً كاملاً حوله» ويرد كامو العبث لعدد من الأسباب ويقاربه في علاقته مع عدة مفاهيم كالروتين والزمن والموت الذي كان المحرض القوي له على إنتاجه الفلسفي وإبداعه المتواصل فيصوره على أنه كابوس يلاحق الإنسان ممثلاً بأبطال رواياته ثم يتحدث عن علاقة الإنسان بالقدر والألم فيتولد الاغتراب الذي يعد من أهم الأبعاد التي تؤدي إلى الإحساس بالعبث وبلا جدوى الحياة، فالعبث والاغتراب أحدهما يؤدي بالضرورة إلى ظهور الآخر.
«لقد بقيت على اعتقادي أن هذا العالم ليس له معنى أسمى ولكني أعلم أن فيه شيئاً له معنى وهو الإنسان، لأنه الوحيد الذي يطالب بذلك».
إذاً يتولد العبث عند كامو من عدم القدرة على تفسير الحياة، إذ يشعر الإنسان بأنه مقذوف في هذا العالم الغريب عنه، العالم المدمر الذي يجتهد في اختراع، أفتك الأسلحة والوسائل التقنية التي لا تبيد البشر فقط، إنما تعمل على تبديد كل رغبة بشرية بالسلام والأمان فيصعب على الإنسان فهم هذا العالم واستيعاب قيمه ويكتشف العقل كثافة العالم واستحالة تحويله إلى شفافية يمكن إدراكها أو فهمها.
ولكن كل ذلك في رأي كامو لا يبرر الانتحار مطلقاً بكل أشكاله، وينظر كامو إلى المنتحر على أنه الإنسان اليائس الذي عجز عن نفي العالم بكل ما فيه من عبث وزيف و فوضى فيقوم بنفي نفسه بإرادته وهو بهذا يلغي كل قيمة للحياة.
ويربط كامو بين الفن والعبث ويرى أن الفيلسوف محتَّم عليه مواجهته والتمرد عليه، فكذلك الفنان يواجهه ولابد أن يتمرد عليه ويعيد صياغته بطراز فني يصدر عن إبداعه الخاص، فمهمة الفن هو العمل على تقليد الحياة بما أن الوجود كله في حد ذاته ليس سوى تقليد للاجدوى.
وفي الفصل الثالث والأخير تسلط الكاتبة الضوء على المحور الثاني والأساسي في فكر ألبير وهو التمرد الذي يتضمن تعالياً روحياً تحققه الذات ويرفض فيه الفرد المصير الإنساني الذي كتب فيه العناد على الإنسان والقوة التي تسبب له الشقاء والتعاسة، ويرى أن التمرد لا يتحقق إلا بإيقاظ الوعي الذي يركز كامو على دوره في تخطي لحظة العبث للانتقال إلى اللحظة الثانية وهي التمرد حتى لقبه بعض النقاد بفيلسوف التمرد وأفرد له كتاباً سماه (الإنسان المتمرد) ومن ثم تكمن أهمية التمرد لدى كامو في محاولته القضاء على الأفكار السابقة وعلى التفسيرات الغيبية والآمال التي تهدف إلى إنهاء العبث إضافة إلى كونه العامل الأساسي في تحرير الوعي من قيوده التي قيدته بها أسرار العبث.
الاختلاف بين التمرد والقتل

يرفض كامو القتل والعنف ويؤسس فلسفته على رفض الجريمة والإرهاب ويطالب المتمرد المعتدل الأصيل بأن يلتزم الحدود ويتجنب القتل ما أمكنه، لأنه إذا انحرف عن أصله فإنه سينتهي حتماً إلى القتل والتدمير، ويقسم كامو التمرد إلى نوعين هما: التمرد الميتافيزيقي الذي يكون تمرداً على الغيب وعلى المصير الظالم الذي كتب له فيها الشقاء والعناء والتمرد التاريخي (السياسي).
ثم تعرج الكاتبة على أهم قيم التمرد التي أكدها ألبير وهي: الاعتدال والعدالة والحرية فالأخيرتان تعملان على المحافظة على التمرد وكل منهما تؤدي في النهاية إلى الآخر من دون إطلاقهما الذي يؤدي إلى تشييء الإنسان أو تأليهه وينوه كامو بأهمية التضامن البشري وجعله شعاراً يعبر عن التحامهم وبالتالي تتحول رغباتهم من رغبات فردية إلى رغبات إنسانية، تسعى إلى نشر قيم مشتركة من عدالة واحترام للفكر والكرامة البشرية… يتمكن الإنسان بواسطتها من محاربة الشر والعبث معتمداً على تضامنه مع بقية البشر، وللتعبير عن أفكاره حول التمرد يلجأ كامو إلى الفن للتعبير عن ماهية التمرد على عبثية العالم ومحاولاته الدائبة لتصحيح الواقع.
فترى الدكتورة إدريس أن استعادة أفكار كامو أمر مشروع بل ملح أيضاً نظراً للتشابه بين قرننا الحالي وقرن الخوف كما سماه كامو الذي استطاع بوعيه وإدراكه لهموم العصر الذي يحياه أن يقدم للإنسانية تراثاً فلسفياً وأدبياً يساعد بتجدده الدائم على خلق روح إنسانية جديدة، تؤمن بأهمية الحياة وبقدرة الإنسان على تقديم الإسهامات الجديدة على الرغم من القهر والألم والصراعات التي يواجهها، وكأنه يبني فلسفة تدافع عن الإنسان، عن مكانته، ودوره في الوجود، وترفض كل أشكال العدمية والتطرف، متخذاً من الأدب وسيلة لتجسيد أفكاره الفلسفية، فهو يرفض أيضاً أن يتخذ دور المشاهد السلبي للوقائع، إنما يسعى دوماً للتغيير وإلى الدفاع عن القيم التي يحققها الفكر المتمرد، والتي تعلي من قيمة الإنسان، فيعد فيلسوفاً أديباً يجدر الاهتمام بفلسفته وبأدبه معاً.
وتجدر الإشارة إلى أن كتاب مشكلة الإنسان في فكر ألبير كامو يأخذ أهميته من أهمية الموضوع الذي تناوله ألا وهو الإنسان ومشكلاته الجديدة القديمة منذ الأزل والتي تتجدد في كل عصر، وتأخذ أشكالاً تعبر عن إنسانها الحالي، علنا نرى في فكر ألبير ما يخفف من وطأتها ويزيل عن صدر البشرية بعض همومها ويجلي لهم الطريق نحو السلام الداخلي والخارجي على السواء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن