اقتصاد

درعا.. حيفا.. المفرّق

| علي محمود هاشم

لا تنفك بريطانيا أسيرة ميراثها النفسي شرق المتوسط، فهزيمتها في سورية من خارج المتوقع، أطلق العنان لأخيلتها الانتقامية المحمومة بالنكران لما انتهى إليه مشروعها.
خلال الأيام الأخيرة، اندفعت محاولة استعمارية متجددة بالإعلان عن مشاريع تجارية جديدة، مستجلبة ميكانيزمات الدفاع كحيلة لاشعورية لتجاوز إحساسها المنطقي بالهزيمة، فألقت بملك الأردن إلى أكذوبة طفولية جديدة، قوامها مشروع لتحويل «قاعدة حسين الجوية» في المفرّق، إلى «محطة لوجستية جوية لإعمار سورية والعراق».
وكالة أنباء الملك، كذبت -أيضاً- حيال أصول «الشركة الأميركية» المتعاقد معها، متجنبة الخوض في تاريخها القريب كإحدى مبادرات البنك الدولي، كما تجاهلت التطرق إلى دور مديرتها التنفيذية كواجهة للألاعيب البريطانية في الحرب على سورية، فتحت غطاء «المبادرة الإنمائية»، تم على الأغلب شحن الأسلحة عبر «مطار حسين» إلى «اللواء المدرع» الذي أسسته بريطانيا لحثالاتها جنوب سورية، وفق اعترافات أدلى بها ملك الأردن مؤخراً أمام الكونغرس الأميركي.
يبدو من اللطيف مراقبة تحول برنامج إنمائي «استخباراتي» ينشط في درعا، إلى شركة «موانئ جافة» بالمفرّق، الألطف منه متابعة إطراءات البنك الدولي عليه قبل تحوله لشركة، وبتزامن مجمل الأمر مع انضمام أحد الاقتصاديين السوريين السابقين «من حملة الآذان البريطانية» إلى البنك الدولي، فلا حاجة إضافية لفهم الصحوة على أهمية المفرق في استكمال مؤامرة دول التاج البريطاني على جنوب سورية!.
كذبة «المفرّق» هذه، شهدت قبل أيام فصلاً مكملاً مع إعلان وزير الاستخبارات والمواصلات الإسرائيلي عن مباحثات و«دول الخليج» لإحياء قطار الحجاز الذي «يربط حيفا بالخليج مروراً بالأردن والسعودية.. ويقلص تكلفة وصول البضائع الأوروبية.. كما يدعم 25 بالمئة من التجارة التركية التي تمر عبر حيفا»، حسب الوزير الصهيوني.
يجسد مشروع «المفرق/ حيفا» المتكامل هذا، حنيناً بريطانياً شرق المتوسط، متكئاً على الأحلام التاريخية الصهيونية وعلى بيئة تحالفاته الطارئة، وينضبط كحلقة في سلسلة مشاريع قناطر التجارة الغربية لمواجهة طريق الحرير الشرقية، إلا أن دوره «لإعمار سورية والعراق» لهو رهن بقبول غير ممكن لكليهما بالاستلقاء على أرصفة الموانئ الإسرائيلية؟!
والحال كذلك، يبقى لـ«المفرق/ حيفا» نافذته الخليجية، ووفق معطيات الصراع على العرش السعودي، ثمة قابلية لتحقق ذلك، لكنه أيضاً رهن بسلسلة من الأوهام التي يجب تحققها عبر تكاسل سوري غير متوقع عن إطلاق بيئة تجارية مناسبة تربط جغرافيته بمحيطها الشمالي والشرقي، فوفق قوانين التجارة، ما إن «يحضر البرّ سيبطل اليمّ»، بما فيه ميناء حيفا.
محاولة بريطانيا ممارسة «الخلط البنّاء» بين السكك الإسرائيلية والموانئ الأميركية الجافة وبرامج البنك الدولي «الإنمائية» جنوباً، لن تكفي لتبرير «إعمار جنوب سورية» عبر «إسرائيل»، ففي الحقيقة، قد لا يكون لدرعا أهميتها كمنفذ «حيفاوي»، ولا حتى لمدينة المفرّق من خلفها، ما لم ترتبطا بامتدادهما الجغرافي شمالاً، فكلتا المدينتين تتخذ أهميتها كتقاطع لطرق التجارة القادمة من الموانئ والبرّ السوريين شمالاً، لا كمخفر متقدم لحراسة الفشل البريطاني جنوباً، وما لحظة انفتاح الجغرافية السورية العراقية المتوقعة إلا بداية إهمال الجغرافية الأردنية، طالما أصرّ نظامها على التقافز فوق الحبال!.
في بعده التاريخي، يختزن مشروع «المفرّق حيفا» تلميحات أكثر خبثاً، فالسكك التي تمتد حالياً من حيفا إلى بيسان نحو «معبر الشيخ حسين» الفلسطيني- الأردني، لهي تفريعة لسكة «حيفا- درعا» التي دمّرتها عصابات «الهاغانا» إبان احتلال فلسطين بما عرف آنئذ بـ«يوم الجسور».. ما دمّرته «إسرائيل» سابقاً، لربما تحاول بريطانيا إعادة وصله اليوم، فوفق توزع الولاءات جنوب سورية، ليس مستبعداً أن تستبطن الفكرة مدّ السكة إلى طبريا عبر «الحمّة» السورية، وصولاً إلى حيث عملائها المشتركين «أردنياً وإسرائيلياً» في ريفي درعا الغربي والقنيطرة الجنوبي.
في الجغرافية الأبعد، قد تكون مصر المأخوذة بنمو كاذب يتم حقنه في بنيتها الاجتماعية، وإيران، على موعد مع تحديات جديدة، فمشروع «حيفا المفرق» يتسق مع أحلام «قناة البحرين» بين حيفا والعقبة كانتقام بريطانيا المتأخر على تأميم قناة السويس بأهميتها البالغة على أمن مصر القومي، وعلى الثورة الإيرانية التي انتزعت منها مضيق هرمز بالغ الأهمية لأمنها الحيوي.. وإذا ما ذهبت «المفرق حيفا» عميقاً، فسيشكل ربطها مع الأحلام الصهيونية في إطلاق قناطر للطاقة تحت مياه المتوسط، إعلان حرب على مصر وإيران معاً، كما على مصالح سورية والعراق وروسيا والصين.
لعبة «المفرق حيفا» الملكية تنتمي إلى ألعاب المحصلة الصفرية كما في «البوكر»، لكن نتائجها قد تكون قاسية في السياسة والاقتصاد، والسيئ الذي تقترفه مخيلة «المليك» الكسولة، قد تَنقله بقوة إلى الأسوأ حين الردّ عليها، فلو كان ما يلقى له قابلاً للتحقق، لما كان للحرب على سورية والعراق من دواع أصلاً.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن