من دفتر الوطن

حلب القلعة

| حسن م. يوسف 

ليست القسوة سمة جديدة في البشر، فالتاريخ يشهد ويبرهن على أن القسوة كانت دائماً شقيقة التاريخ وعشيقته الدائمة. وقد كانت حصة منطقتنا من القسوة هي الأكبر من بين كل مناطق العالم، بسبب جمالها وغناها، وكبرياء أبنائها. وعندما يقترن الجمال بالغنى والكبرياء، فمن المحتم أن يكثر الطامعون والمتوددون والأعداء. وحلب، التي نحتفل بعيد تحريرها هذه الأيام، دفعت على مر تاريخها ضريبة جمالها وغناها وكبريائها من دماء أبنائها أكثر من أي مدينة أخرى في هذا الشرق الحزين.
تكاد حلب تكون شاهداً على بداية الحياة في منطقتنا، ففي حي «المغاير» قرب الكلاسة وجدت غرف بدائية ترجع للعهد الحجري القديم الذي انتهى قبل اثني عشر ألف عام، وكانت حلب عاصمة لمملكة «يمحاض» الأمورية، وتعاقبت عليها بعد ذلك الأمواج الحثية، والآرامية، والآشورية، والفارسية، والهيلينية، والرومانية، والبيزنطية، إلى أن ألبسها خالد بن الوليد القميص العربي الإسلامي عام 637 ميلادية.
وقد كانت أعوام القرن الماضي وما مضى من هذا القرن الدامي قاسية على حلب أكثر من سواها، فبعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، اقتطعت من ولاية حلب أربع مدن هي عنتاب ومرعش وأضنة ومرسين، كما خسرت حلب في الوقت نفسه السكة الحديدية التي كانت تصلها بالموصل. وبعد أقل من عقدين فقدت حلب ميناءها على البحر الأبيض المتوسط بعد أن تم سلخ لواء إسكندرون عن وطنه الأم سورية.
وقد شهدت حلب ضرباً استثنائياً من القسوة خلال الحرب التي شنتها الفاشية العالمية بالتعاون مع القوى الظلامية المحلية على سورية، إذ استبيحت معاملها ومصانعها ومعالمها التاريخية، وهدمت بيوتها ونهبت خيراتها.
تفيد كتب التاريخ أن الإمبراطور البيزنطي نيكفوروس فوكاس هاجم حلب في أواسط القرن العاشر الميلادي، فنهب المدينة وأحرقها ولكنه أخفق في الاستيلاء على القلعة «رغم أنه قطع أعناق اثني عشر ألف أسير حلبي أمام سكان القلعة لتخويفهم». وكذلك أخفق تيودور ابن أخي نيكفوروس في فتح القلعة، فحاصرها، وبينما كان يلقي كلمة في جيشه أثناء الحصار، فتح باب القلعة للحظات وبرزت منه امرأة رمت تيودور بحجر وأصابته ثم انكفأت إلى الداخل!
وفي عام 1260هاجم المغول حلب بقيادة هولاكو ودمروها، لكنهم عجزوا عن أخذ القلعة، فوعد هولاكو الملك توران شاه، ابن صلاح الدين الأيوبي، بالحفاظ على حياة وممتلكات المدافعين عن القلعة إن هم سلموها له، ولكن هولاكو غدر بهم فأبادهم وهدم القلعة!
وعندما هجم المغول مرة ثانية بقيادة تيمور لنك عام 1400 لم تكن قلعة حلب قد استعادت عافيتها فاستبيحت للمرة الثانية. وهكذا قهرت قلعة حلب مرتين عبر تاريخها الطويل مرة بالخديعة ومرة بالضعف وقد كادت الخيانة تقهرها للمرة الثالثة غير أن وعود أحفاد هولاكو وتيمورلنك لم تنطل على حماتها هذه المرة!
على مر التاريخ كانت حلب تتلقى أوجع الضربات، لكن ظهرها بعد كل ضربة كان يزداد قوة، وها هي حلب تستعيد توازنها وتعود لأداء دورها كعاصمة للحياة في هذا الشرق المنخور بالعملاء وتجار الموت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن