ثقافة وفن

قصور سادت ثم بادت … يوم كانت دمشق تحكم من الدرويشية بداية القرن السادس عشر قبل دخول العثمانيين

| شمس الدين العجلاني

أمم وقبائل وشعوب مرت على دمشق.. حضارات سادت ثم بادت.. ولم تزل دمشق أم الدنيا وحضارتها.. دمشق سِفْر مفتوح نقرأ فيه قصصاً وروايات وحكايا، نقرأ سرًّا وأسراراً، نقرأ في سفر دمشق حكايات لها أول وليس لها آخر… ونستمر في قراءة أسرار دمشق.
في منطقة الدرويشية كان هنالك بناء عظيم قديم، أطلق عليه عبر السنوات أسماء عدة، فكانت دار السعادة، ودار المشيرة، والسرايا «سراي الحكومة»، والسرايا العسكرية، ومركز قيادة الجيش الهمايوني الخامس، ودار المندوبية.. واندثر هذا البناء، وأقيم مكانه القصر العدلي الذي لم يزل قائماً حتى الآن.
من منطقة الدرويشية ومن دار السعادة كانت تدار أمور دمشق السياسية والاجتماعية والعسكرية والمالية زمن المحتل العثماني.. تعرضت دار السعادة لعدة نكبات بفعل الإنسان، إلى أن احترقت ودمرت، وفي زمن الاستقلال جاء الرئيس شكري القوتلي، وأشاد على جزء من مساحتها قصراً كبيراً.

البداية
في الزمن المملوكي كانت تدار شؤون الحكم لدمشق وملحقاتها من المدن والقرى، من سوق الحميدية من قصر كان هنالك واندثر وكان يسمى دار السعادة.
وحين جاء المحتل العثماني، اعتمد هذا القصر مقراً للحكم على البلاد والعباد، واستمر حكم دمشق من سوق الحميدية ومن دار السعادة زمن المحتل العثماني بين عامي 922 هجري إلى 950 هجري، فكان مقراً للولاة العثمانيين. إلى أن انتقلت سلطة الحكم إلى الدرويشية إلى قصر آخر وأطلق عليه في البدء دار السعادة، وفي بداية عام 1573 م تغير اسمها من دار السعادة إلى سراي الحكومة. وأول من اتخذها مقراً لسلطته وممارسة صلاحيته والي دمشق شعبان أحمد شمسي باشا، ثم تبعه في ذلك الوالي عيسى باشا، وكذلك الوالي محمد باشا العظم. وآخر الولاة العثمانيين الذين اتخذوا السراي مقراً لهم الوالي حسن إبراهيم باشا.
وصف القصر

شيد قصر «دار السعادة – دار المشيرية – السرايا- سراي الحكومة» خارج سور دمشق في محلة الدرويشية عند باب المدينة الغربي باب النصر، بداية القرن السادس عشر وقبل دخول المحتل العثماني إلى بلاد الشام عام 1516م، في محلة كانت تُدعى بـ«محلة الأخصاصي» أو «سوق الأخصاصيين» نسبة للتجار الذين كانوا يبيعون الأخصاص والأقفاص، ثم تبدل اسم المحلة بشكل تدريجي ليصبح «الدرويشية» وذلك بعد بناء جامع درويش باشا.
حلت دار السعادة الجديدة في الدرويشية، مكان دار السعادة القديمة التي كانت في سوق الحميدية.
بنيت دار السعادة الجديدة، على مساحة كبيرة من الأراضي، وكانت عمارتها في غاية الروعة والإتقان، تستوعب أعداداً كبيرة من أصحاب الشأن في الحكم والإدارة، إضافة إلى عناصر الحراسة والشؤون المالية، فعلى سبيل المثال، آوى هذا القصر عدداً كبيراً من جيش إبراهيم باشا، عند دخوله دمشق في 16 حزيران عام 1832م. وبقي هذا الجيش في بدمشق مدة ست سنوات وأطلق على السرايا اسم «السرايا العسكرية».
لقصر دار السعادة ساحة كبيرة تتوسطها بحرة ماء محاطة بالأشجار. كان القصر مؤلفاً من طابقين وقاعة برانية، يجلس فيها الحاكم « الباشا »، وفي الداخل هنالك جناح مخصص لسكن الحاكم يدعى جناح الحرملك، ومن المنشآت الملحقة بالقصر، دار المستلم، وغرفة للصيارفة «ديوان» وهم من اليهود لأنه في ذاك الزمن كانت خزينة الدولة بأيديهم، كما كان هنالك غرفة استراحة «للقهوة والشاي»، وعدة غرف للحرس، وسجن، ومطبخ وإسطبلات.

حريق القصر
تعرض القصر لعدة اعتداءات وسرقات وحرائق، ففي عام 1787م كان اسمه السرايا، ضرب بالمدافع من قلعة دمشق، بسبب خلاف وقع بين والي دمشق آنذاك «أظن إبراهيم باشا» وبين آغا القلعة « قلعة دمشق» الآغا أحمد الزعفرنجي، وتخربت أجزاء من القصر.
كما احترقت السرايا عام 1831م أثناء ثورة الدمشقيين ضد الولاة العثمانيين ونهب أهل البلد محتويات السرايا بما فيها من طعام، وأضرموا النار في أركانها، وطالت الحرائق بعض البيوت المجاورة للسرايا.
كما نصبوا المدافع قبالة حمام الملكة في الدرويشية وعند باب الحديد المقابل لباب السرايا، وهدموا جانباً عظيماً من برج الزاوية الجنوبية الغربية للقلعة قرب سوق الحميدية المقابل لباب السرايا بالمدافع واللغم « كتاب المختار المصون من اعلام القرون».
وعند انسحاب جيش محمد علي باشا من دمشق، دمر وأحرق القسم الجنوبي من السرايا والمسمى «الحرملك» كي لا يترك وراءه ما يفيد الدولة العثمانية من معلومات مهمة قد تضر بجيشه المنسحب.
وبعد انسحاب جيش محمد علي باشا تمت إعادة ترميم وإعمار ما تهدم من السرايا، وفي أواخر القرن التاسع عشر أعيد تجديد البناء ليصبح الطابق الأرضي على شكل أقواس متتالية عالية الارتفاع لسهولة دخول وخروج عربات النقل التي تجرها الخيول، أما الطابق العلوي فأصبح مكاتب لموظفي الحكومة وضباط الجيش.
وأصبح قصر السرايا على شكل مجمع طابقي، زرعت حول المبنى الأشجار وفتحت بوابة كبيرة للسرايا من الناحية الشمالية التي حوت الحدائق والساحة الكبيرة.

محمل الحج الشامي
ونتيجة لكون قصر السرايا قصراً عظيماً، فقد كان له الدور المميز في طقوس وعادات المحمل الشامي الشهير، فقد كان ينطلق المحمل الشامي من باب السرايا إلى السنانية فالشاغور فباب كيسان ثم الباب الشرقي حتى مسجد الشيخ رسلان بعده برج الروس فالسادات والعمارة والأبارين مروراً بالسروجية وعودة إلى السرايا حيث يطوى المحمل إلى يوم 16 شوال موعد الخروج إلى قبة الحاج قرب القدم وهنا يستلم أمير الحج جمل المحمل وينطلق الحجيج في اليوم الثاني إلى مكة المكرمة.

الإمبراطور الألماني ودار المشيرية
بناء على دعوة من العثماني المحتل عبد الحميد الثاني وتحت شعار، رحلة حج للعاهل الألماني الإمبراطور غليوم الثاني إلى الأراضي المقدسة وتدشين مؤسسات ألمانية، وصل إلى دمشق مساء يوم الثلاثاء 8 تشرين الثاني 1898م الإمبراطور غليوم الثاني والإمبراطورة فكتوريا في زيارة رسمية تستغرق يومين.
تشكلت لجنة في دمشق لاتخاذ جميع الإجراءات لإنجاح زيارة الإمبراطور برئاسة والي دمشق ناظم باشا وعضوية كل من: أمين عالي بك دفتر دار الولاية، وعبد الرحمن باشا محافظ الحج الشريف، ومحمد فوزي باشا العظم عضو مجلس إدارة الولاية، وخسرو باشا قومندان الجندرمة، وخليل أفندي الخوري مدير الأمور الأجنبية.
وقامت هذه اللجنة بإصلاح دار المشيرية وفرشها «وهي مقر إقامة الإمبراطور غليوم والإمبراطورة فكتوريا»، وإصلاح وفرش نزل بسراوي (مقابل وزارة الداخلية الآن) لنزول حاشية الإمبراطور. ووصفت المشيرية في ذاك الوقت، بأنها دار واسعة، ويبلغ طولها نحو ثلاثمئة ذراع، استغرق إعدادها خمسة عشر يوماً لتكون صالحة لاستقبال الإمبراطور وزوجته.
كما تم تزيين الأسواق وتحسين الطرق والأبنية وخاصة محطة القطار في البرامكة محل قدوم الإمبراطور:
كان في استقبال الإمبراطور الألماني في محطة البرامكة والي دمشق حسين ناظم باشا والوزراء وأهالي دمشق كبيرهم وصغيرهم. وأقام غليوم وزوجته في سراي العسكرية (دار المشيرية).
هنالك من يذكر أن غليوم الثاني نزل في فندق فيكتوريا، ولكنني أميل للقول: إن الإمبراطور وزوجته نزلا في دائرة «المشيرية».

دار المندوبية
بعد خروج المحتل العثماني عام 1918 م، ودخول المحتل الفرنسي، قام المفوض السامي الفرنسي غورو عام 1920 بجعل دار المشيرية مركزاً رسمياً لدوائر المحتل الفرنسي، وأطلق عليها اسم «دار المندوبية» نسبة إلى الانتداب الفرنسي، وصارت رسمياً مقراً لدوائر المندوب السامي المفوض من فرنسا.
وفي عام 1929 شغل قسم من دار المندوبية دوائر النفوس الشامية إضافة إلى دائرة الأمن العام والجوازات.
احترقت دار المندوبية عام 1945م بفعل نار خرجت من الناحية الغربية الجنوبية، وطالت معظم غرفها وجدرانها وأسقفها، ما سبب تداعي المبنى القديم وبات آيلاً للسقوط ما أدى إلى هدمها كلياً.
وفي زمن الاستقلال ورئاسة شكري القوتلي للبلاد قامت الحكومة بتشييد مبنى جديد في جزء من أراضي دار المندوبية الواسعة، وأطلقت عليه «القصر العدلي» ونُقلت إليه جميع دوائر العدل الشرعية والمدنية. وبني القصر العدلي على طراز فن العمارة الإسلامية المحضة المتمثلة بالواجهات الثلاث للمبنى وعلى وجه الخصوص الواجهة الرئيسية التي جاءت على طراز القصور الفخمة بقوسها الكبير على شكل محراب، كما هي العمائر العربية الإسلامية الضخمة، إضافة إلى النوافذ القوسية المدببة والمحمولة على أعمدة صليبية ومعشقة بخشبيات زجاجية جميلة، فضلاً عن المقرنصات المخففة عند سطح المدخل الرئيسي، ولم يزل هذا القصر قائماً حتى الآن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن