ثقافة وفن

كيف يحتفل السوريون بالميلاد المجيد؟ … لوقا الخوري: السوريون يؤمنون بالفرح واحتفالات سورية هذا العام رسالة للعالم بأننا عدنا من جديد

| سارة سلامة

بعد سبع سنوات من الحرب نرى المنازل والشوارع والساحات في كل المحافظات السورية قد اكتست بالزينة والأشجار مع كل ما تحمله من أضواء وألوان، احتفالاً وابتهاجاً بعيد الميلاد، وربما يشكل العيد في هذا العام القيامة بالنسبة لسورية، فنرى الناس تخلع عنها حزن حرب دامت لسنوات وترتدي ثوب الفرح والابتهال في خطوة تدلّ على أن الشعب السوري بكل أطيافه لا يعرف الحزن أو الموت، وهو يثبت مراراً أنه من أبناء الحياة، ونجد الناس هنا سئمت هذه الحرب الملوثة بكل ما تحمله من قيم مشوهة، فهذا الشعب يؤمن بالقيامة مثلما يؤمن بولادة وحياة وقيامة يسوع المسيح.
ومع انتشار الظلم والضبابية في ذلك الوقت شكلت ولادة يسوع المسيح منعطفاً في تاريخ البشرية بكل ما يحمله من رسائل حب وسلام وتسامح، والمسيحية أو النصرانية هي ديانة إبراهيمية وتوحيدية متمحورة في تعاليمها حول الكتاب المقدس، وبشكل خاص يسوع الذي هو في العقيدة متمم النبوءات المنتظر، الذي قدّم في العهد الجديد ذروة التعاليم الروحيّة والاجتماعية والأخلاقية، وأيّد أقواله بمعجزاته، وكان مخلّص العالم بموته وقيامته، والوسيط بين اللـه والبشر، وأعطى يسوع قاعدة للسلوك يمكن تطبيقها في كل مكان وزمان، وكل تعاليمه يمكن إيجازها بكلمة واحدة وهي «المحبة»، والمحبة عنده هي محبة كاملة.
ويُعتبر عيد الميلاد ثاني أهم الأعياد المسيحية على الإطلاق بعد عيد القيامة، ويترافق هذا العيد مع تزيين المنازل والكنائس والشوارع الرئيسية والساحات في المناطق التي تحتفل بالعيد.
زينة الميلاد ورمزية الشجرة

يعتبر تاريخ نشوء زينة الميلاد قديماً للغاية وربما يعود للقرن الخامس عشر، حيث انتشرت في لندن تحديداً عادة تزيين المنازل والكنائس بمختلف وسائل الزينة، وتشمل زينة الميلاد شجرة العيد وهي رمز لقدوم يسوع إلى الأرض، وهو حسب التقليد يجب أن تكون من نوع شجرة اللبلاب حيث ترمز ثمارها الحمراء إلى دم يسوع وإبرها إلى تاج الشوك الذي ارتداه خلال محاكمته وصلبه.
ويذكر أن أول من استخدم شجرة الميلاد هم الألمان وذلك قبل المسيحية بزمن طويل، حيث كانوا يعتبرون الشجرة الخضراء رمزاً للحياة الدائمة، وعرفت بريطانيا شجرة عيد الميلاد عن طريق الأمير (ألبرت) وهو ألماني وزوج الملكة فيكتوريا عام 1841، أما أميركا فعرفتها في عام 1776 م.
إن تقليداً تطوّر حول هذه الشجرة انطلاقاً من حدث هروب العائلة المقدّسة إلى مصر، فقد تم تناقل روايةٍ مفادها أن جنود هيرودوس كادوا يقبضون على العائلة المقدّسة، غير أن إحدى شجرات الراعي مدّدت أغصانها وأخفت العائلة. فكافأها الربّ بجعلها دائمة الخضرة، ومن ثم رمز للخلود، ليست هذه القصّة حقيقية وإنما أتت كجزءٍ من محاولات إضفاء الطابع المسيحي على عيدٍ كان بالأساس وثنيّاً، أما استخدام الشجرة فيعود حسب بعض المراجع إلى القرن العاشر في إنجلترا، وهي مرتبطة بطقوس خاصّة بالخصب، حسب ما وصفها أحد الرحّآلة العرب.
وتمّ تزيين أول الأشجار بالتفاح الأحمر والورود وأشرطة من القماش وأول شجرةٍ ذكرت في وثيقةٍ محفوظة إلى اليوم، كانت في ستراسبورغ سنة 1605، لكن أول شجرةٍ ضخمةٍ كانت تلك التي أقيمت في القصر الملكي في إنكلترا سنة 1840، على عهد الملكة فيكتوريا، ومن بعدها انتشر بشكلٍ سريع استخدام الشجرة كجزءٍ أساسي من زينة الميلاد.
ويلحق بالشجرة عادة مغارة الميلاد، وهي أقدم من الشجرة تاريخياً، إذ كان تصوير مشاهد ولادة يسوع منتشراً في روما خلال القرن العاشر، وكان القديس فرنسيس الأسيزي قد قام عام 1223 بتشييد مغارة حيّة، أي وضع رجلاً وامرأة لتمثيل مريم ويوسف، وطفلاً لتمثيل يسوع مع بقرة وحمار المستمدين من نبوءة أشعياء حول المسيح، وانتشر هذا التقليد بعد مغارة القديس فرنسيس في أوروبا ومنه إلى مختلف أنحاء العالم، وإلى جانب الشجرة والمغارة، فإن الأجراس والسلاسل الذهبية والكرات الحمراء وندف الثلج وأكاليل الأغصان دائمة الخضرة، والشموع اللولبية والملائكة وحلوى القصب والجوارب الحمراء، والنجوم – رمزًا لنجم بيت لحم – تعتبر داخلة في إطار زينة الميلاد التقليدية.

نؤمن دائماً بالقيامة
ويقول المعاون البطريركي لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس المطران لوقا الخوري في يوم الميلاد: «إن المسيح جاء من أجل خلاص البشرية، وهو لم يأت فقط للمسيحيين وإنما للبشرية كلها، وولادته بمغارة في بيت لحم بمكان بسيط ومتواضع تعلمنا الكثير من القيم الجميلة ومنها التواضع والتسامح والبساطة والمحبة، وكانت رسالته المحبة والسلام والتسامح، وهذه الرسالة لها أهميتها في هذا الوقت الذي تمر به سورية فنحن بحاجة اليوم إلى المحبة والسماحة».
وأضاف الخوري:« إننا يجب أن نندمج مع هذه الصلوات، ونتعلم كيف نحب غيرنا ونتعلم قبول الآخر، ونتعلم التسامح بقدر الإمكان، ونتعلم أننا جميعاً إخوة مع بعضنا، كل هذا نأخذه من ميلاد يسوع المسيح ومن رسالته على الأرض».
وعن الشجرة وتزيينها ورمزيتها قال الخوري: «إن هذه العادات مرتبطة بالأطفال من أجل رسم الفرحة في قلوبهم، والشجرة في الأصل جاءت من تقاليد غربية والاهتمام بتزيينها كان من أجل تعليم الأطفال كيف أتى المسيح على الأرض وكيف ولد بمغارة وكيف كان متواضعاً فالمسيح يحب الأطفال كثيراً، ومثل ما ذكر بالإنجيل: «دعوا الأولاد يأتون إليّ لأن لهم ملكوت السموات».
وبينّ الخوري: أن «بلدنا يمرّ بوضع مأساوي ولكن لاحظنا هذا العام 2017، أن الناس بدأت بالخروج من حالة حزنها واتجهت اتجاه الفرح أكثر، ونلاحظ البيوت والساحات والشوارع مزينة بشكل أكبر، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على أن الناس تريد العيش وإثبات أنهم من أبناء الحياة، لأن المسيح علمنا أن نكون من أبناء الحياة، ونرى الاحتفالات والزينة ونصب الأشجار تعمّ جميع المحافظات السورية، وهذا كله يضفي شعور الفرح في قلوب الناس ويعود بنا إلى الحالة التي كنا نعيشها قبل الأزمة، فنحن شعب لا نؤمن بالحزن، بل نؤمن دائماً بالقيامة».
وأفاد الخوري: «إن ما تعيشه سورية من احتفالات في الميلاد يعتبر رسالة إلى العالم أجمع بأن المسيحيين والمسلمين في بلدنا يعيشون مع بعضهم هذا الفرح فرح الأعياد، وحقيقة أن الكثير من إخوتنا المسلمين يشاركوننا في هذه النشاطات ويدخلون الكنائس ويصلون معنا وهذا ليس غريباً علينا كسوريين، وكل هذه الاحتفالات ما كانت لتكون لولا الانتصارات التي حققها الجيش السوري الذي أعاد لنا حالة الأمن والأمان، وإن جاءت بعض القذائف فنحن اليوم منتصرون على الأرض ومنتصرون سياسياً ولعلنا في عام 2018 نحقق هذا الانتصار النهائي ونطرد آخر إرهابي من بلدنا».
ووجه الخوري رسالة إلى المغتربين السوريين في الخارج وإلى السوريين داخل سورية حيث قال: «إن سورية هي بلدكم ومن الواجب عليكم العودة إليها لتشاركوا بإعمارها، لأن من يتخلى عن بلده كأنه يتخلى عن شرفه وأرضه وعن إيمانه، فبلادنا رائعة بكل ما تمتلك من أماكن مقدسة وكنائس وجوامع، وفي بلادنا مرّ جميع الرسل والأنبياء، ومن الشرق انتشر التبشير إلى كل العالم ونحن من أوصل المسيحية للعالم، كما أن الإسلام لم يكن موجوداً ونحن من أوصلنا الإسلام من سورية إلى العالم، لذلك فإذا تخلينا عن بلدنا عدمنا ثقافتنا وحياتنا وأخلاقنا، وخاصة أننا في سورية نتمتع بأخلاق غير التي يعيشونها بالغرب، فنحن نعرف أن نحب ونضحي ونساعد عندما يحتاج أحدنا لمساعدة بعكس العادات الغربية».
وأعرب الخوري عن تمنيه بأن يعم الأمن والأمان في هذا الميلاد حيث قال: «أعايد كل السوريين بهذه المناسبة والمغتربين وأتمنى الصحة الجيدة لهم ولكل أحبابهم، وكل التقدير والمحبة لأهلنا السوريين في هذه البلاد، ونحن نصلي دائماً لملك السلام يسوع المسيح أن يحفظ كل العائلات السورية، وأتمنى لجيشنا البطل أن يحقق كل الانتصارات في عام 2018، فنحن ظل لهذا الجيش وخدام له ونصلي له دائماً بالتحية والسلام والأمان، ونترحم على شهدائنا الأبرار الذين رووا أرض سورية بدمائهم الزكية وجعلونا زهرات في هذه البلاد وأتمنى لجرحانا الشفاء العاجل، وكل الأمان والخير لرئيسنا الدكتور بشار الأسد ولعائلته، فهو أب للأطفال وأخ للكبار وابن لكل نساء سورية وأتمنى من اللـه أن يزيده من الحكمة لنبقى نعيش تحت جناحه بأمن وأمان».
وفي كلمة أخيرة لم ينس بها أن يستذكر القدس قال الخوري: «لا شك في أن هناك حسرة بقلوبنا وهي فلسطين بشكل عام المغتصبة والمسروقة من الشعب العربي وخاصة القدس محجتنا للسماء إن كان للمسيحيين أم للمسلمين، فإذا نهبت القدس نهبنا نحن شخصياً وهي ستبقى عربية وليست إلا عربية».

ولادة جديدة لسورية
ومن جانب آخر يقول الأب جاك يعقوب رئيس دائرة الشباب في بطركية السريان الأرثوذكس: إنني «أصلّي لكي يكون هذا الميلاد ولادة جديدة لسورية لتخرج من الأزمة التي تمرّ بها والتي كانت على شكل ظلام، مثلما أشرق النور في شخص يسوع المسيح بولادته في الجسد حيث كانت الدنيا ظلمة، وكان هناك اضطهاد وتعد وظلم وتعد على الآخر، وخرج من تلك الظلمة نورٌ، وكلمة رجاء الميلاد هي لا تخافوا، وكلمة لا تخافوا تريح الإنسان وتجعله يثق بأن وراءه من يسنده، وترجم الملاك هذه الكلمة بأنه قد ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح، كما أن رسالة الميلاد منذ بدايتها كانت مع كل الأمور الجميلة التي تحملها للإنسان مثل الأمور الروحية لكنها تعطي رسالة خاصة موجهة للإنسان بألا يخاف».
وأضاف يعقوب: «إن الميلاد هذا العام يعتبر ولادة جديدة لسورية وهو مختلف عن بقية الأعوام السابقة، وترافق مع فرحة أكبر من الشعب وتقبل أكثر، وبعد معاناة 7 سنوات من الحرب نحن واثقون أن اللـه معنا، وبعد الظلمة لا بد من أن يشرق النور، وشمس سورية ستشرق من هذا الميلاد وتكون بداية جديدة مثل ما كان الميلاد بداية جديدة في حياتنا وأعطانا رجاء وأملاً».
وأوضح يعقوب: «إننا في الاحتفالات ننغمس أكثر ونذهب وراء المظاهر وننسى صاحب العيد ونقوم بالاهتمام بالشجرة والزينة ونهتم بصنع المغارة، ولكن هل يا تُرى اهتمامنا بصاحب العيد أكثر؟ ومن المفترض أن نتعلم من يسوع البساطة والتواضع فهو ولد في مغارة بسيطة وفي وقت لم يستقبله أحد من الناس ليعلمنا البساطة والتواضع لأن أساس مجيئه هو التواضع».
أما عن الرمزية في هذا العيد فقال يعقوب: «إنه من الأمور الجميلة أن نعطي بهجة للميلاد من الأضواء والأنوار والتزيين وهي رمزية جميلة ولكن شجرة الميلاد هي تقليد أوروبي غربي وأعطيت رمزية دينية وهو الخضرة الدائمة التي ترمز للحياة الجديدة التي وهبنا إياها يسوع في الميلاد، والشجرة الخضراء هي شجرة غير مائتة وحية دائماً ورمزيتها تكون في أن نعي أننا أحياء ولسنا أمواتاً، كما أن موت المسيح وقيامته وولادته كانت ليأتي ويؤسس لأناس مسيحيين وليس عالم متدينين بالديانة المسيحية وليكونوا طبيعة المسيح نفسها وروحه نفسها الذي قال عنه الكتاب المقدس (الذي جعله بكراً بين إخوة كثيرين)، ووضعت الشجرة لتذكرنا بالمبادئ السامية للميلاد أو بالأسباب السامية له».
وأفاد يعقوب: «إن الكتاب يقول عن يسوع جملة جميلة وهي: (في كل ضيقاتهم تضايق)، وهنا أقول لكل النازحين والمهجرين إن المسيح اختبر الهجرة بسبب ظلم معين وعليهم أن يصبروا ويعودوا إلى بلدهم ويعرفوا أن اللـه معهم، والله بيده كل شيء وإذا لم يتدخل مباشرة ليمنع شيئاً معيناً فهذا لا يعني أنه غير موجود ولكنه يتدخل بطرق معينة كما يقول الكتاب المقدس: إن (طرقه تبعد كما تبعد السماء عن الأرض هكذا تبعد أحكامي عن أحكامكم وطرقي عن طرقكم)، وبعد الظلم لا بد من أن يظهر الحق مثل الميلاد الذي أتى بنور في جو معتم وظلام دامس، وقسم به التاريخ إلى قسمين قبل الميلاد وبعده، ونحن كذلك في سورية وبهذا الميلاد نصلي أن يكون يوماً جديداً لسورية تشرق فيه شمس جديدة».
وختم يعقوب قائلاً: «إن أهم إعلان في الكتاب المقدس يعلنه يسوع عن نفسه في سورية بقيصرية فيلبوس اليوم بانياس، وأول مرة تظهر لفظة الكنيسة في سورية حيث يقول: (أنت هو بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي)، كما أنه تكلم لغتها الآرامية السريانية، وأقول لكل الذين خرجوا إن بلدنا جميلة وهي بحاجة كل شخص فينا ويجب أن نثق بأننا قادرون على القيامة من جديد».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن