ثقافة وفن

الخطاب السردي والتمثيل التاريخي … ملاحظة موضوع السلطة في النص تنفي المزاعم التي يدعيها .. المقولات الأخلاقية والفكرية كانت أصلاً في حاضر المؤرخ

| إسماعيل مروة

ثمة علاقة وطيدة بين الخطاب السردي والتاريخ، وهذا قلما يلتفت إليه النقاد الذين يقفون عند النص ومقولاته ومكوناته، وقلما يقف عندها المؤرخون الذين يعتنون بالنص التاريخي وحده، ويكون النص الأدبي أو السردي بمعزل عن السياق التاريخي، وهنا لا أقصد النص التاريخي بمعزل عن النص السردي، وإنما قد يتداخل الفنان معاً، ففي كثير من الأعمال السردية يكون التمثيل التاريخي واضحاً ويطغى على السرد بجزئياته، وكذلك فإن بعض مدونات التاريخ في سرديتها تمثل موقفاً يتجاوز الحديث التاريخي… «محتوى الشكل- الخطاب السردي والتمثيل التاريخي» للناقد هايدن وايت، الذي ترجمه الأستاذ الدكتور نايف الياسين، كتاب رائد في هذا الباب، وهو كتاب من الصعوبة والعمق بمكان، ويحتاج إلى تأنٍّ في قراءته وفهمه، لأنه يشكل نظرية متكاملة لمؤلفه.

الأيديولوجيا والسلطة
يميز المترجم د. الياسين في مقدمته لترجمته دور وايت المختلف والجوهري «لعب وايت دوراً محورياً في تركيز الاهتمام على مشكلة السرد في التأريخ والنقد الأدبي، وقدّم واحدة من أكثر النظريات تأثيراً واستفزازاً في الفكر المعاصر، تتمثل في الدور المحوري للأيديولوجيا، ويركز الاهتمام على مشكلة الذات القارئة التي يمكن أن ينتجها شكل خطابي معين».
وفي هذا الفهم المتقدم لوايت تظهر القيمة الكبرى للأيديولوجيا، إذ تشكل الأرضية الأولى للقارئ للحدث الذي يتحول إلى مدوّن للتاريخ، يمكن أن يسجل ما يدونه من منظور أيديولوجيته، ويتجاوز بذلك مهمة تسجيل التاريخ التي لا يلتفت إليها كثيرون عند قراءة السرد التاريخي، فالعلاقة تربط بين القارئ المؤرخ والسلطة والأيديولوجيا بشكل وطيد، ما يترتب علينا قراءة التاريخ بدقة للوصول إلى هذه الأيديولوجيا التي ينطلق منها… ولنقرأ ما يعقب به المترجم لنكون على بينة من المنهج الذي اختاره وايت «خطاب المعرفة والتعليم يخفي دائماً علاقاته بالسلطة، ويقدم نفسه على أنه يتعامل فقط مع الحقيقة الموضوعية والحيادية، وطبقاً لوايت، فإن إحدى الوظائف الرئيسية للتاريخ كاختصاص تتمثل في فرض الانضباط على الرغبة، وتطهير السرد التاريخي من أي استياء راديكالي من الحاضر والتزام بمستقبل مختلف» فوايت يسعى حسب تعبير المترجم إلى أمرين: فرض الانضباط على الرغبة، تطهير السرد التاريخي، وهذا ما يحدد معالم السرد التاريخي كما يراه المؤلف، ولكنه في دراساته يقف عند مدونات تثبت أن كتابها لم يتعاملوا معها بغض النظر عن الرغبة والأيديولوجيا.

تمثيل المحتوى
«السرد ليس مجرد شكل خطابي حيادي قد يستخدم أولا لتمثيل الأحداث الحقيقية من حيث هي سيرورات تطور، بل ينطوري على خيارات معرفية ذات استتباعات أيديولوجية، بل حتى سياسية متمايزة، يعتقد العديد من المؤرخين المحدثين أن الخطاب السردي ليس وسيطاً حيادياً لتمثيل الأحداث والسيرورات التاريخية، بل هو المادة التي تصاغ منها نظرة أسطورية للواقع» هذا المقبوس من وايت يضع أمام القارئ منهجاً واضحاً للتعامل مع المدونة التاريخية، فالمدونة:
– ليست وسيطاً حيادياً.
– مجال لأسطرة الواقع.
– مجال تمثيل الأحداث وسيرورتها.
وليس بمعزل عن الكلام السابق يمكن فهم المدونة التاريخية في سياقات عدة:
1- الهوى والرغبة لدى الكاتب نفسه.
2- الأيديولوجيا التي تحكم القارئ.
3- السلطة التي توجه المدون والأيديولوجيا معاً.
وطبقاً لهذا نفهم ما يريد وايت بالتمييز بين التخييل والواقع «على حين أن كتاب القصص الخيالية كانوا يخترعون كل شيء في سردياتهم… فإن المؤرخين لا يخترعون شيئاً سوى زخارف بلاغية تهدف إلى الاستحواذ على انتباه قرائهم… هذا ما يعلل الاهتمام الذي تبديه الفئات الاجتماعية المهيمنة ليس بالسيطرة على ما يعد أساطير سلطوية لتشكيل ثقافي معين وحسب، بل أيضاً بضمان اعتقاد أن الواقع الاجتماعي ذاته يمكن عيشه وفهمه واقعياً أيضاً على أنه قصة» هذه التفريقات والمنطلقات غاية في الأهمية لفهم رؤية وايت لمحتوى الشكل، فقد رصد في ثماني مقالات تحليلية أعمالاً نظرت للسرد نظرة عميقة «ليس كنتاج لنظرية ولا كأساس لمنهج، بل كشكل في الخطاب يمكن أن يستخدم أو لا يستخدم في تمثيل الأحداث التاريخية، طبقاً لما إذا كان الهدف الرئيسي يتمثل في وصف حالة، أو تحليل سيرورة تاريخية، أو رواية قصة. وطبقاً لهذه النظرية فإن مقدار السرد في تاريخ معين سيتفاوت، ووظيفته ستتغير طبقاً لما إذا كان يعتبر غاية بحد ذاته أو فقط وسيلة لتحقيق غاية أخرى».
وهنا يميز المتخصصون في التاريخ والمحتوى والسرد نظرات متعددة لا يمكن للقارئ العادي أن يلتفت إليها:
– شكل في الخطاب يمكن استخدامه في تمثيل الأحداث التاريخية.
– شكل في الخطاب يمكن ألا يتم استخدامه.
– تحليل سيرورة تاريخية محددة أو رواية قصة.
– السرد بين الغائية وحده وكونه وسيلة لغايات أخرى.
وهذا الفهم العلمي المتقدم، إضافة لملامسة الأيديولوجيا ودورها في صياغة التاريخ وسرده، والسلطات وإمكانية التلاعب بسرد التاريخ، يظهر لنا بجلاء أهمية السرد التاريخي كما ورد في مدونات درويزن «إن المجلد الأول مهدى إلى يورن روزن الذي اشتهر بدراسة أجراها على أعمال درويزن التاريخية أظهر فيها كيف أن النظريات المتقدمة بشكل منهجي في مبادئ التاريخ كانت ضمناً في ممارسته كتابة التاريخ منذ البداية، وكان «ماينكه» جادل بأن درويزن ضمن النظرية خيبة الأمل التي أحدثتها هزيمة بروسيا في أولموتس والخوف من التهديد الفرنسي لألمانيا الذي تمثل في استعادة لويس بونابرت الإمبراطورية عام 1852… الثقافة والسياسية، أثرت في دراسات درويزن عن الإسكندر…».
فالبعد السياسي لا يمكن أن ينفصل عند عدد من أصحاب النظريات التاريخية أو التفسيرية للتاريخ، وهذا يعطينا فهماً أعمق للسرد التاريخي الذي لا يكون لمجرد المدونات والسرد، والمؤلف ليس حيادياً في التصنيف التاريخي من عواطفه وميوله وانتمائه وأيديولوجيته.

الفرد والتاريخ
«في المقابلة الأخيرة التي أجريت مع فوكو قبل وفاته، قدّم سبيين لاهتمامه بالفترة الكلاسيكية، كان أحدهما رغبته في دراسة ظاهرة السلوك الفردي، والسبب الآخر كان اهتمامه لعلاقة مسألة الأسلوب بالأخلاق والسلوك» فالاهتمام التاريخي بهذه الحقبة كان من أجل متابعة السلوك الفردي للأشخاص، وهذا يعطي فكرة متكاملة عن المرحلة بتمامها، إضافة إلى عنايته بالأخلاق والسلوك المجتمعي، وهذا ما لا يمكن أن يتحصله إلا بدراسة المرحلة التاريخية، ولو تابعنا نجد أن فوكو يعتني بالصحة والتعليم والحب والجنس وما يتفرع عن الحياة الإنسانية، ما يؤكد أن الدراسة التاريخية يمكن أن تشكل حاضنة اجتماعية ونفسية للمجتمع الذي تحيا فيه.
ويلفت الانتباه الانتقاد الموجه إلى الكتب والسرديات التاريخية التي تتناول حقبة محددة في تشابهها من حيث التناول، أو اقترابها من النصوص الأدبية التي أنتجت في الحقبة أو تناولتها «إن المؤرخين السرديين ينبغي ألا يشعروا بأي حرج حيال التشابه بين القصص التي يروونها وتلك التي يرويها كتاب التخييل، القصص التاريخية والقصص التخييلية يشبه بعضها بعضاً، لأنه مهما كانت الاختلافات بين محتوياتها المباشرة، فإن محتواها النهائي هو ذاته: بنى الزمن البشري».
إن كتاب «محتوى الشكل» من الكتب المهمة التي تستحق قراءة وتمثلاً لعلنا نصل إلى دراسات معمقة في فهم سيرورة التاريخ والنص الأدبي، والعلاقة الرابطة ما بين المدونات والتاريخ القصصي والأدب التخييلي، لما بين هذه الفنون من روابط قوية قادرة على صناعة رؤية جديدة وقراءة أكثر عمقاً. وشكراً لجهد الترجمة التي قدمت نصاً وعراً بالطريقة الممكنة، ولعلّ القراءة تظهر لنا الهوة السحيقة بين دراساتنا الوصفية وهذه الدراسات المعمقة الأصيلة، وإن كانت مرتكزة إلى مقالات، لكنها مقالات ودراسات ذات وزن نوعي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن