قضايا وآراء

في تراتبية جنيف.. أستانا.. سوتشي

| عبد المنعم علي عيسى

منذ أن تم الإعلان عن مؤتمر سوتشي في اليوم الأخير من الجولة الثامنة لمؤتمر أستانا الأخير وإلى اليوم، يبدو من الصعب تلمس حدود وأطراف ذلك المؤتمر، خصوصاً أن المعلومات التي أطلقها أهله شحيحة، ولذا يبدو صعباً الحكم عليه بدلالة الرسم المحتمل له وإن كان ممكناً الحكم عليه بدلالة أخيه غير الشقيق جنيف الدولي، وأخيه الشقيق أستانا الروسي العسكري، وذلك عبر مقاربة النجاحات التي حققها كل منهما أو المعوقات التي عجز إحداهما أو كلاهما عن تجاوزها، وربما يمكن من خلال تلك المقاربة تلمس الموجبات التي قادت إليه إذ إن من البساطة القول إن فكرة سوتشي قد ولدت من رحم ملف المعتقلين، على أهميته، الذي وقفت جولة أستانا الأخيرة عاجزة عن تحقيق اختراق فيه.
لا تكتمل المرامي السابقة أو محاولات النجاح فيها إلا بإحاطة مهمة للمآلات الأخيرة التي وصلت إليها خرائط السيطرة الميدانية على الأرض وكذا التراصفات الإقليمية التي باتت تحمل كل يوم أمراً جديداً، وإذا ما حاولنا أن نفعل نرى أن المشهد الداخلي السوري ينشد باتجاهين متوازيين الأول هو اندفاعة الجيش نحو إنهاء الجيوب الأمنية المحيطة بالعاصمة دمشق وصولاً إلى أقصى جنوبها باتجاه الحدود مع فلسطين المحتلة، كاسراً بذلك خطوط تل أبيب الحمر ومعها التفاهمات التي سال مداد غزير للحديث عنها، وربما كان السبب الأساس في خلفية المشهد لتأجيل مؤتمر سوتشي هو لإنضاج هذه الصورة الأخيرة التي كانت جنينا كما يبدو، وما يلزم هو الوقت لإسقاطها على الأرض، والثاني هو تقدم الجيش في محيط إدلب وصولاً إلى قطع معابر الربط وممرات الدعم و«الهروب» بالاتجاه التركي، وربما كان هذا الفعل الأخير هو السبب الأساس الذي دفع بموسكو إلى تغيير رؤياها حول الخواتيم التي يجب أن تنتهي إليها البؤرة الإدلبية، فتقارير استخبارات روسية تقول إن هناك 4500 من متطرفي الشيشان في سورية، ومن المؤكد أن موسكو لا تريد لهؤلاء العودة إلى «بلادهم» والأفضل هو ألا يخرجوا أحياء، أما التغير في الرؤية هنا فهو ينطلق من ملمح كان يرى بعيداً في النيات الروسية التي كانت تبدو وكأنها تفضل الإبقاء على العديد من المناطق الساخنة أو البؤر المتوترة بالتزامن مع غذ السير حثيثاً في مسار التسوية السياسية، في صوره تقرأ على أنها ورقة ضغط تحتفظ بها موسكو للضغط على الحكومة السورية وفي الآن ذاته الضغط على المعارضة، انطلاقاً من أن استمرار تلك المناطق يمكن أن ترى فيه هذي الأخيرة نقاط قوة على طاولة المفاوضات، ولذا فالروس كانوا يمنون الأنفس بمحاولة الإبقاء على تلك «النقاط» تحت خطر التهديد بتدميرها إن لم تكن السلوكيات تصب في خدمة المسار السياسي.
الآن وبعدما أعلن عن موعد محدد لانعقاد سوتشي أواخر الشهر الجاري تبدو الخيارات التي تقف عليها المعارضة السورية شديدة الضيق، وإذا ما كانت التوجهات المرجحة أو الإعلامية تميل إلى رفض المشاركة، فان هذا الخيار يبدو انتحارياً والرفض سوف يعني التهميش تلقائياً وربما كانت المعارضة مدركة جيداً أن خياراً من هذا النوع لن يدفع بالآخرين إلى تغيير رؤاهم أو المسارات التي قرروا الذهاب فيها، ولم تزل عالقة في الأذهان أن محاولات التعنت التي سارت فيها المعارضة خريف وشتاء عام 2015 برفض مشاركة كل من منصتي موسكو والقاهرة في تمثيل المعارضة السورية، هي التي قادت نحو مناخات استصدار القرار 2254 في كانون الأول من العام نفسه، والقرار إذ أكد على وجوب مشاركة جميع أطياف المعارضة من أقصاها إلى أقصاها، كان في مقلب آخر يمثل انتصاراً للرؤى الروسية وتكريساً للثقل الروسي في الأزمة السورية وباعتراف دولي هذه المرة، ولذا فقد كان من شأن نظرية المحافظة السياسية المعتمدة من المعارضة والتي تتمثل بـ«إما كل شيء أو لا شيء» تماماً كما كان الأمر عليه أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي وهو ما دفع بها إلى التلاشي، إن أدى، ولسوف يؤدي، إلى المآلات نفسها التي ذهبت إليها هذي الأخيرة، وربما الأهم في هذه المرحلة بالنسبة إليها هو قراءة ماذا عنى القرار برفضه اعتماد مخرجات مؤتمر الرياض المنعقد أوائل الشهر الذي صدر فيه ذاك القرار ما بعد منتصفه، وكذا تجنبه لأي ذكر لما سمي بـ«هيئة الحكم الانتقالية» والشيء بالشيء يذكر ومن المهم هنا أن نذكر أن أول ذكر لهذا المصطلح الأخير كان قد ورد في بيان «جينيف 1» الصادر في 30 حزيران 2012 وفي النص الانكليزي المعتمد لذاك البيان لم يتم استخدام مصطلح GOVERNAINJ ويعني «حاكمة» وإنما استخدم مصطلح GOVERNMGNAL وهو يعني «حكومية» والفرق شاسع بين المصطلحين بالتأكيد.
أما الحضور، أي حضور المعارضة، فهو يهدد وحدتها في العمق، ولسوف يكشف عيوب اللاصق السعودي الذي أخرج إلى العلن وفد المعارضة الموحد في تشرين أول المنصرم، والراجح هو أنه قد يؤدي إلى عودة المكونات المجتمعة إلى سياقاتها السابقة، أما إذا ما استخدم معيار البراغماتية بقياس وزن المكاسب إلى وزن الخسائر لتحديد خيار المشاركة من عدمها، فإنه لا بد عندها من أن تدخل في الحسبان العديد من التفاصيل والدقائق ولا بد من وضع صورة الجولة الأخيرة من أستانا التي بدت وكأنها «يالطا» سورية يتفاوض «الخارج» فيها على الداخل السوري دون أن يكون لهذا الأخير بكلا جناحيه علاقة بما يجري، وإذا ما أدركنا أن سوتشي كان قد خرج من رحم تلك «اليالطا» فإن الخشية هي أن يحمل الوليد مورثات أمه تماماً، ويسير بنا كما سارت إليه الأمور بعد أن انفرط عقد هذه الأخيرة في عام 1989 ما أدى إلى انفراد قوة وحيدة، هي أميركا، اختارت «اتفاقية دايتون» للعام 1995 لحل كبرى الأزمات التي واجهتها أولاً، مع فارق وحيد هو تغير هذه القوة الأخيرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن