قضايا وآراء

في التحولات العراقية الجارية

| عبد المنعم علي عيسى

عندما كثرت السهام التي كانت تستهدف ميليشيات «الحشد الشعبي» الحليفة للجيش العراقي في كل معاركه وفي كل انتصاراته، انبرى المرجع الديني آية اللـه السيستاني لكي يعطي العملية برمتها طابعا آخر، فقد جاء في خطبة الجمعة 15 كانون الأول التي ألقاها ممثل عنه: «وجوب دمج الفصائل المسلحة تحت راية الحشد الشعبي في أجهزة الأمن العراقية»، وتلك كانت فتوى في غاية الأهمية، ولا بد هنا من أن نذكر بأن السيد السيستاني هو نفسه من أطلق فتوى التطوع «الكفائي» في حزيران 2014 عندما كانت مؤسسات الدولة العراقية تتهاوى أمام داعش كمكعبات كرتونية يلهو بها الصغار، فقد كان الاستثمار في الرعب والرهبة قد بلغ أوجه، بعدما انتشرت فيديوهات الذبح والحرق كما النار في الهشيم لتحقق الغايات المرجوة منها بدرجة اكبر من المتوقع لها، في مجتمع أصيب بالصدمة تجاه ما يجري ولم يعد يصدق ما تراه عيناه.
تأسست ميليشيات الحشد الشعبي في أعقاب الفتوى سابقة الذكر، وهي بالضرورة أفرزت متطوعين كانوا قد تجاوزوا رهبة الذبح والحاجز النفسي الذي حاولت داعش بناءه، فالمقاتلون جاؤوا وهم يحملون أكفانهم على أكتافهم فما جدوى التهديدات إذاً؟ ومن المؤكد أن تلك الحالة كانت الحجر الأساس في المعادلة التي استطاعت أن تهزم داعش بدعم خارجي مهم هو الآخر، ولذا فإن ميليشيا الحشد باتت تحتل مكانة هامة في الذات الجماعية العراقية أياً تكن صبغتها وعلى الرغم من أغلبية العنصر الشيعي فيها، ومن المهم هنا أن نقول إن غلبة العنصر الشيعي لا يمكن بأي حال أن يكون دليلا على طائفيتها، فمن الطبيعي أن تكون أغلبية الذين استجابوا لنداء السيستاني هم من الشيعة، ولو لبت تلك الدعوة جحافل السنة فما من أحد كان سيقول لها إن لا مكان لها في ذلك الحشد، ثم إن هناك فرقاً كبيراً بين أن يعتد تنظيم أو حزب أو نظام بعصبية معينة داعمة له وبين أن يصبح ذلك الاعتداد دليلا على خلفيته الطائفية أو المذهبية.
إما أن يقال إن تلك الميليشيات إيرانية أو أن قرارها يصدر في طهران انطلاقا من الدعم الإيراني الذي تتلقاه، فتلك محاولة فقط لتشويه دورها، إذ لا بد من الاعتراف بأن كل تشكيل تأسس في سياق الحربين السورية والعراقية كان يعتمد في بنائه على تمويل ودعم خارجيين، وإذا ما جاءت تركيبة الحشد أقرب إلى كونها فصيلاً شيعياً فإن ذلك لا يعتبر أساساً لإيديولوجيتها فطهران تدعم حماس وحركة الجهاد الإسلامي، وربما قد يكون مفاجئاً للبعض أنها كانت تدعم الإخوان المسلمين في سورية قبل أن يوغل هؤلاء في إراقة الدماء السورية، ونحن هنا لسنا في موقع الدفاع عن إيران فلا أحد يمكن له أن ينفي أن هذي الأخيرة قد تصرفت بمسؤولية تاريخية تجاه الأحداث التي شهدها العراق وهي وقفت بقوة ضد محاولات التقسيم التي تعرضت لها الجغرافيا العراقية، ولو تصرفت بدافع الأحقاد أو الثأر لكانت ذهبت في اتجاه تشتيت القوة التي حاربتها لثماني سنوات ودمرت فيها ما دمرت، والكارثة أن تلك الحرب كانت قد انطلقت بدعم خليجي مطلق وبناءً على تقارير أميركية إسرائيلية مفادها أن العراق فيما لو شن حرباً على إيران الآن، أي عشية الحرب أيلول 1980، فإن الجيش العراقي سيكون بمقدوره الوصول إلى طهران في غضون أسابيع أو بضعة أشهر على أبعد تقدير، وقد ثبت زيف تلك التقارير وتكشفت أهدافها، وربما كان من مصلحة طهران بمنظور ضيق أن تعمل على الانتقام لتلك الحرب التي لم تكن تملك أي مبرر لقيامها وللخسائر التي تكبدتها والتي لا يزال المجتمع الإيراني يعاني من أثارها الديموغرافية إلى الآن وخصوصا فيما يتعلق وموضوع النسبة بين الذكور والإناث.
الآن تبدو هناك فرصة لتلاقي توجهات السيستاني مع نظيرتها لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي يرى أن ضم تلك الميليشيات إلى مؤسسات الدولة من شأنه أن يفقد قياداتها الكثير من المكاسب والمزايا التي حققتها إبان خوضها لحروب شرسة على مدار ثلاث سنوات أو يزيد، الأمر الذي يخفف من وزنها عشية الانتخابات المقرر إجراؤها في أيار المقبل، ولا ضير بالتأكيد أن يتم التلاقي عند أهون الشرور، إما أن يصر حيدر العبادي على إجراء الانتخابات في هذا الموعد سابق الذكر في ظل اعتراض مكونين هامين من المكونات العراقية الوطنية فذاك بالتأكيد سيكون مدخلا لشرخ خطير يصيب التركيبة العراقية في الصميم في وقت هي أحوج ما يكون إلى عمليات الترميم وجبر الكسور، خصوصاً إذا ما كانت تلك الاعتراضات تملك ما تستند إليه، فالسنة يرون أن انتخابات تعطي للسنة وزنهم الذي يستحقونه لا يجب أن تجري إلا بعد عودة المهجرين إلى بيوتهم وهم في غالبيتهم من السنة، أما الأكراد فيرون أن تلك الانتخابات يجب أن تحدث فقط بعد توصل بغداد إلى اتفاق مع إقليم كردستان ينهي الأزمة القائمة ويعيد للإقليم عافيته التي خسرها سريعاً كما يبدو، وإصرار العبادي على إجراء الانتخابات وسط هذه الظروف قد يكون بداية لانهيار مشروعه ومدخلا لتآكل عهده.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن