اقتصاد

الخل الوفي

| علي محمود هاشم

من الفريد أن يتحول تعطّل بعض شركات القطاع العام إلى مناسبة مُفرحة لتقليص خسائرها.. هذا الحال يجب أن يتبدل، ولهذا -لربما- لا يزال المرء يتمتع بالقدرة على تقليب النسخة المتجددة مما أعلنته اللجنة الوزارية قبل أيام، مشروعاً لإصلاحه.
عادة، لا ينطوي النقد على مخاطرة، ولذلك، فلأي منّا أن يشيح بوجهه ويمضي في انتقاد فساد القطاع العام وترهله وأمراضه التقليدية دون أن يرف له جفن.. على النقيض، لطالما حفل اجتراح الحلول بالمخاطرة العابرة للأبعاد الفنية والاجتماعية والسياسية، ولهذا لربما تمترست جل مبادرات إصلاحه خلف رزمة من الإيديولوجيات المتناقضة التي تتلولب كأحد جذور مشكلته أصلاً.. فكان أن انتهى الأمر بـ«شعار إصلاحه» متقفّيا أثر الغول والعنقاء والخل الوفي.
مبادرة الإصلاح «الجديدة»، ورغم دبلوماسيتها «اللا متناسبة» في انتقاء مفردات يصعب تأويلها خوف الانزلاق إلى فخّي «الأيديولوجيا، أو عدو القطاع العام»، فقد وضعت لجنتها الوزارية برنامجا زمنياً لاستقطاب رؤى الوزارات حول واقع ومصير مؤسساتها الاقتصادية، عاكسة بشكل مبشّر جدية المشروع، إلا أن ذلك أظهر في الوقت نفسه قصر تطلعاتها على «ترقيع الحال» عبر انتظار حلول من المشكلة ذاتها، ما يثير المخاوف حيال مستقبل المبادرة برمتها بعد تسربلها في سراديب رؤى متضادة وأخرى مستوحاة من «العلبة» الإيديولوجية إياها!
كما يؤخذ على اللجنة إشاعتها سقفاً ذاتياً منخفضاً للتوقعات، ففي مقدمتها الموجبة مثلا، ارتكزت في رؤاها الإصلاحية إلى مقولة «ما أثبته القطاع العام كحامل للاقتصاد الوطني خلال الحرب». في الواقع، قد يجدر بها التحرر من هذه الفكرة، فما يُنتظر منها لا يقل عن تصورات قابلة لقيادة قطاع عام نحو اقتصاد وطني منفتح على عالم اقتصادي شرقي وشيك الولادة، حيث سورية التي يجب أن تكون إحدى نقاط ارتكازه شرق المتوسط.
ولأن قراراتها قد تستتبع شكلاً تفضيلياً من طراز ما، يجب بها إدارة رؤاها بدقة تحترم التصورات الأوسع للدور السوري في الاقتصاد الإقليمي والأبعد، فنحن اليوم لم نعد في دولة القرن العشرين التي تبدل دورها بطريقة درامية إبان حلول ثورة المعلومات في الاقتصاد والمجتمع والسياسة والأمن، وعلى فريق «الإصلاح» النظر بشجاعة إلى ذلك، فمثلاً، وتحت شعار «الولع بالقطاع العام»، بقي قطاع النقل الجوي والبحري على تواضعه لعقود طويلة غير مستوعباً الفرادة التي تتمتع بها الجغرافية السورية كمحطة تلتقي عندها نهايات وبدايات طرق التجارة والثقافة، حتى وصل الأمر مؤخراً بمعظم دول الجوار إلى التنطح بموانئها ومنصاتها الاقتصادية لإعادة إعمار سورية.
على الجانب المشرق، يخيل للمرء أن اللجنة ضمّنت مشروعها كلمتها المفتاحية في إصلاح قطاعنا العام، ففي سياق محدداتها لمصير «المؤسسات أو الشركات» العامة، مرّرت «المؤشر الإستراتيجي» كأحد مكونات أهميتها، هذا التعبير، وعلى عكس المؤشرات الأخرى «الإنتاجية والتكاليف وربحيتها وحجم عمالتها»، يمكن له أن يمهد للإجابة عن السؤال المفتاح: في أي القطاعات يجب البقاء ومن أيها يجب الخروج، إذ لم يعد يجدر بـ«الدولة» أن ترى نفسها منافسا إنتاجيا أو متعهدا لإقامة مخيمات العمالة الفائضة بهيئة شركات، كما لا يجدر بها انتظار الربح من الإنتاج المباشر، بل من إدارة الاقتصاد الكلي وفق اعتبارات قد يتخذ بعضها طابعا جيوسياسياً.
ما سبق، يمهد الطريق لمقترح قد تستمزج اللجنة مقاربته بأكثر ما تستطيعه من مباشرة، عبر اعتماد نهج جديد لبقاء «الدولة» في قطاعات «إستراتيجية» محددة مع كل ما يلزم ذلك من إصلاح بنيوي، والتمهيد الواضح للخروج طوعا من قطاعات أخرى وفي مقدمها تلك التي قلصت الحرب البعد الزمني لفشلها المحتّم، ولهذه الأخيرة أمثلتها الكثيرة المريرة.
أما أسوأ ما يمكن انتظاره من «الإصلاح»، فيتجسد في تمديد صلاحية ولعنا في استخدام شعار «الملكية العامة» لتدمير «المصلحة العامة»، وخاصة في القطاعات المرتبطة ببيئة اقتصادية أبعد من محلية يُنتظر منها التحوّل بسورية إلى حالة اقتصادية وازنة شرق المتوسط تنسجم مع الرؤية الجيوسياسية لموقعها، فعلى سبيل المثال، بقي قطاع النقل الجوي والبحري على تواضعه المدقع لعقود طويلة رغم أهمية موقعنا الجغرافي كمحطة التقاء لطرق التجارة، وبغض النظر عن وجاهية بعض الأسباب، يجدر بنا اليوم وقف الترحيل القسري لهذه الأهمية إلى مناطق أخرى في الجوار الإقليمي، بما أسس لعطب تنموي أضر بمصلحة عموم السوريين من باب فوات عوائد اقتصادية ضخمة محتملة.
يمكننا تجريب حلول الإصلاح السهلة لنخرج مبتسمين بعدما تربّت الأيديولوجيا على كتفنا، ففي يوم ما، كانت جميع شركاتنا العامة رابحة بالفعل، حتى الأحذية، وقد يمكن تمديد صلاحية ذلك بجرعة من الدعم والانتظار، كما يمكننا من جهة أخرى دفع القطاع العام، خلّنا الوفي بالفعل، إلى حيث يجب أن يكون أداة إستراتيجية تستدرك قرونا من التهميش الاقتصادي للجغرافية التي ورثناها، ومنصة لنسج شبكة حماية وطنية اجتماعية وأمنية وسياسية بالتشارك وخبرات الدول الصديقة، وهذا ما ليس له أن يتسق مع استمرار الابتزاز اللاواعي لشعار «الحفاظ على الملكية العامة»، بمفهومها الضيق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن