قضايا وآراء

«الدعوة» في العالم العربي المعاصر

| أنس وهيب الكردي

للعالم العربي خصوصية تنبع من تركيبته العميقة الممتزجة مع الإسلام، هذه البديهية الأولى من بديهيات الواقع العربي يجب أن تؤطر أي بحث في سسيولوجيا الحركات التي يشهدها العالم العربي.
والمتابع للأحزاب والحركات العربية منذ الدولة الأموية وحتى اليوم، يلحظ قلة اعتمادها الفكر والممارسة الحزبية كما هو معتمد لدى الأحزاب العريقة في الدول الغربية، يلاحظ أيضاً أن تلك الحركات والأحزاب لم تكن في جوهرها «أحزاباً»، بل «دعوات» اتبع قادتها تكتيكات وأساليب الدعوة في الانتشار والعمل، وارتبطت بمظالم ما، صبت كامل جهدها على قلب السلطة والنظام القائم، أو أنها ببساطة لم تعبأ بهما.
هكذا، استلهم الكثيرون ممن هم متعطشون للسلطة أساليب أشهر الدعوات في التاريخ العربي، وهما الدعوة العباسية والدعوة العبيدية، واللتان وطئتا الأرض أمام قيام الدولة العباسية والدولة الفاطمية.
لا تخرج «جبهة النصرة لأهل الشام» أو «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش» وقبلهما جماعة «الإخوان المسلمين»، عن كونها دعوات حديثة تسعى إلى تكرار نجاحات الدعوات القديمة، مضيفة على تكتيكات السلف ما توفره التكنولوجية الحديثة من وسائل وأدوات، وبالطبع تفرد داعش بإضافة لمسته الخاصة على ما اختطه السلف: الدعوة لا تبلغ مرادها إلا في جو كامل من الفوضى، والحقيقة أن المنظر الفعلي لهذا الاتجاه لم يكن سوى «أبو بكر ناجي» المفكر المنتمي لتنظيم القاعدة، في أطروحته للدكتوراه «إدارة التوحش».
لم يكن قد مر على تولي أبي بكر البغدادي مهامه أميراً لتنظيم داعش سوى عامين عندما انطلقت الاضطرابات في سورية، فقرر الرجل على الفور استغلال سانحة الفوضى التي شهدتها سورية، كما سبق لأبي مصعب الزرقاوي استغلال الفوضى التي اجتاحت بلاد الرافدين بعد الغزو الأميركي للعراق، وأرسل عامله «أبو محمد الجولاني» إلى الشام، ليؤسس بها فرعاً لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» في شهر آب من عام 2011.
بأموال تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» والخبرات والأساليب التي تعلمها في العراق فضلاً عن الدروس التي استفادها من تجربة الزرقاوي في بلاد الرافدين، أسس الجولاني «جبهة النصرة لأهل الشام».
عمد الجولاني إلى الدعوة سراً لتنظيمه وأميره البغدادي، وحرص في البداية على التغلغل في مختلف المناطق السورية مستغلاً شبكة من الجهاديين السوريين وفرها له تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، وبعد أن اشتد عود «النصرة» وقوي نفوذها، انتقل الجولاني إلى مرحلة علانية من العمل كاشفاً عن «النصرة» لأول مرة في كانون الثاني من العام 2012. الأساليب التي اتبعها الجولاني تمثلت في تسعير الفوضى بسورية، الاستفادة من تقهقر المؤسسات في مناطق بعينها من أجل كسب الناس العاديين بخدمات وتقديمات وعبر خطاب تكافلي مستند إلى الدين الإسلامي، وأخيراً، زعزعة الأمن بتفجيرات تستهدف المقار الأمنية والعسكرية بما يزيد من شعبية «النصرة» بين المعارضين، ويقلص قدرات السلطات السورية، ويحرجها محلياً.
انطلاق التفجيرات الأولى للجبهة في دمشق يؤشر إلى أن «النصرة» حظيت بوجود وازن بمحيطها، كما أن الجولاني حرص على أن يكون لتنظيمه وجود قوي في إدلب ودير الزور، الأولى بسبب أهميتها الإستراتيجية في السياسات الإقليمية، والثانية نظراً لقربها إلى معاقل «الدولة الإسلامية في العراق» ببلاد الرافدين.
دير الزور كان لها فائدة أكبر في ميزان حسابات الجولاني، فهي حفرة نفط كبرى وسط الصحراء تستطيع إغناء «النصرة» بعيدا عن المدد العراقي، وعامل للجولاني، هو أبو ماريا القحطاني، تولى الدعوة والحشد في دير الزور حتى سقطت المحافظة بكاملها بقبضة الجبهة، وربما كان لسيطرة دير الزور، التي مثلت أكبر «غنيمة» بحسب تعبير محمد عابد الجابري، الدور الأكبر في رسوخ تنظيم «النصرة» في كثير من المناطق السورية، وتصليبها لعود الجولاني في مواجهة ضغوط أمير تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق».
أرسل البغدادي بعد رفض الجولاني إعلان تبعيته للمركز العراقي، عاملين جديدين إلى سورية حجي بكر، وهو عراقي الجنسية اسمه الحقيقي سمير الخليفاوي، وأبو محمد العدناني الشامي، وهو سوري الجنسية اسمه الحقيقي طه صبحي فلاحة، لترسيخ الدعوة للتنظيم الجديد «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش» المعلن في نيسان من العام 2013، وكلا الرجلين حرصا على استقطاب الكودار الجهادية وتفرغا لتأسيس بنية أمنية عسكرية وعشائرية في حلب والمحافظات الشرقية تمكنت بعد إعلان الخلافة من اقتلاع «النصرة» من دير الزور وغيرها من المحافظات الشرقية.
الحركات القديمة تميزت بكونها تشكيلات لها أجهزة إعلامية وعسكرية ودعوية، ولا تخرج «النصرة» أو داعش أو الإخوان المسلمين أو طالبان عن ذلك، ولا تعني نهاية سيطرة داعش في سورية والعراق أن دعوته قد انتهت، كذلك الأمر بالنسبة لـ«النصرة» ويعلمنا الماضي أن الدعوات هي المحرك الفعلي للتاريخ العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن