قضايا وآراء

«حنبلية» سياسية فلسطينية

| عبد المنعم علي عيسى

لم يكن من معنى لذلك القرار الذي توصل إليه المجلس المركزي الفلسطيني والذي جاء فيه: إن اتفاق أوسلو لم يعد موجوداً، فالمجلس سبق له أن فعلها في أعقاب اجتماعاته في العام 2015 إلا أن ما من شيء تغير فيما يخص التنسيق الأمني مع تل أبيب الشيء الوحيد الموجع لها، ولذا فقد بقي الإعلان بصورته السياسية التي تعتبرها هذي الأخيرة هذياناً لا معنى له على الإطلاق ما دامت ركائزه كلها غائبة، ومن المؤكد أن سيناريو الأحداث القديم سوف يتكرر اليوم دون أي تعديل أيضاً.
لم تعد تل أبيب تخشى التهديد لأنها تدرك جيداً ما الذي فعلته رياح «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«غزه – أريحا أولاً»، كما تدرك أي «هيروشيما» قصفها بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً، فعندما يصل الصراع إلى مرحلة الحسم في القدس فهذا يعني أن هذا الأخير قد بات على مشارف نهاياته، وتل أييب لن تذهب إلى تلك النهايات إلا وقد أيقنت أن خصمها بات «خالي الدسم» أي إنه غير قابل للنمو والأفضل تركه لكي «يستوي في مرقه».
أخطأت حركتا حماس والجهاد الإسلامي بعدم الحضور، فالخطب ليس جللاً فحسب بل إنه اليوم يمضي في مساره نحو شطب مسألتي القدس واللاجئين وهذا باختصار يعني شطب كلمة فلسطين من الوجود، فالغياب لن يؤدي إلى إحداث انحراف جوهري وهو لن يجبر العربة على الخروج عن مسارها، على حين إن للحضور الكثير من المكاسب والعديد من المزايا.
عقد المجلس المركزي الفلسطيني اجتماعه الـ28 في رام اللـه يومي الأحد والإثنين الماضيين، وعلى الرغم من غياب الأضداد إلا أن ذلك لم يكن كافياً لكي تسود أجواء الحوار والتهدئة، فالشقاق وصل إلى أعماق الكل بما فيهم حركة فتح، فـ«صفقة القرن» فرضت انقساماً وتراصفات جديدة وهي عابره للأحزاب والحركات والفصائل، وقد برز ذلك في تباين المواقف ضمن منظمة التحرير نفسها فها هو عضو اللجنة التنقيذية فيها أحمد مجدلاني يقول: «لا يمكن اتخاذ أي خطوات من دون أن نضع بالحسبان كل الاحتمالات التي تترتب عليها» وبمعنى آخر تغليب لغة العقل في اتخاذ القرارات السياسية، واللافت هو أن المنظمة لم تكن، أو تيار «أبو ديس»، فيها تحديداً في يوم من الأيام أكثر «عقلانية» مما أظهرته الأمس في الوقت الذي باتت هذه الأخيرة تعني القبول بحلول الهيكل محل قبة الصخرة، واعتبار أوسلو مقدساً لأن البدائل كارثية والعقل يفرض التروي، أي عقلانية هذه؟ فأوسلو وبعد 25 عاماً على توقيعه لم يعط للفلسطينيين أكثر من الوهم والنوم على ريش النعام المزيف، ولم تكن إقفال مكاتبهم في واشنطن كافية لإيقاظهم من تلك الأوهام.
بدا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس هزيلاً على الرغم من أنه حاول أن يظهر كزعيم لـ«التطرف» المطلوب، إلا أن المحاولة جاءت متأخرة ولم تعد تعني شيئاً، بل قد تكون تلك المحاولة الإسفين الأخير في انهيار نظامه فالبديل محمد دحلان مل الانتظار بعدما طالت فترة الإحماء التي تسبق النزول إلى أرض الملعب، ومهما يكن من أمر فإن «الرمد أفضل من العمى» بكثير.
في منتصف القرن الهجري الثاني برزت نظرية «خلق القرآن» التي جاء بها عبد الله بن أباض كأكبر تحد واجه الفكر والتراث الإسلاميين، والجدير ذكره هو أن تلك النظرية كانت تناغي العقل وسيلة لانتزاع الإطار الذي منحه الإسلام للعرب وبه تمكنوا من حمل لواء الحضارة، فدهاء الفكرة كان يهدف إلى نسف الفكر والتراث الإسلاميين وإحلال آخرين بديلين منهما، وذاك باختصار كان يعني زوال أمة وإحلال أخرى محلها، آنذاك تصدت «الحنبلية» للفكرة عن طريق فرض التشدد والتمسك بأدق التفاصيل وسيلة إلى إنشاء حاجز كاف لردع كل محاولات الاختراق، وعلى الرغم من أن الحنبلية توسم اليوم بالتطرف والتشدد إلا أنها يجب ألا تفهم إلا في سياق الظروف والمناخات التي خلقت فيها، ولذا فإن مشروعيتها التاريخية تنحصر في ذينك الأمرين السابقين، فلا تعود مسوغة إلا في سياقات مشابهة، واليوم هاهي السياقات الفلسطينية حاضرة بل تعيش ظروفاً وتهديداً يعادل، إن لم يكن يفوق، التهديد الذي مثلته فكرة خلق القرآن، ولذا فإن المطلوب اليوم هو «حنبلية» سياسية فلسطينية تتشدد في كل شيء وتعود بالقضية إلى مناخات ما قبل صدور قرار التقسيم العام 1947، وتكون كفيلة لردع تيار «أبو ديس» من التربع على ذروة فكر وتوجهات الشارع الفلسطيني، أما آن الأوان لكي تعود القضية إلى وهجها بعد كل ذاك الركام والتشويه الذي أصابها؟ صحيح أن هناك الكثير من ضغوط الخارج وإغراءاته، والكثير من المناخات العربية المحبطة التي أخذت تشترى وتباع تبعاً لمصالح داخلية ضيقة وهي سترتد عاجلاً أم آجلاً على تلك السوق برمتها فتنسف تجارها أولاً ثم تكمل على أساساتها و«دكاكينها» الفلسطينيون اليوم بانتظار ابن حنبلهم الذي يجب ألا يتأخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن