ثقافة وفن

الحديث بالحديث يذكر

| إسماعيل مروة

أحسد ذلك الذي يتحدث عن الفساد ومقاومته ومحاربته، وهو منغمس في الفساد بتمامه، حيث لا يظهر منه أي جزء، وربما كان انغماسه كافياً لسلالات بشرية، يتحدث بأريحية، وكأنه في جزيرة منعزلة لا يعرفه أحد، ولم يتعامل معه أحد، ولم يمارس فساده على أمة كاملة.
وأغبط ذاك الذي يتسنّم على منبر إعلامي، فيعد تقاريره عن البرغوثي، وعن التميمي، ويستعين بأفضل الخبرات، وينبش الأرشيف بمهارة ليقدم تقاريره عن حياتها وسيرتها وعن أسرتها، وفي سياق التقرير يذكر أن العتاة من الصهاينة طالبوا باغتصاب الفتاة المناضلة التميمي ابنة الستة عشر ربيعاً، ويمضي التقرير من قناة المعتصم، ولا معتصم يتوفر وراءها، بل لا معتصم يرى هذا التقرير، لأن رؤيته تفترض أن يطلب من سادته الإفراج عن هذه البطلة، وهو لو قال لحدث ما أراد، ولكن أزعم أنه وأمثاله يتمنى أن يفعل الصهاينة بالمناضلة وبكل المناضلات ما يريدون، لأنهم خصومه الذين يخافهم، هذا إن لم أقل: إنه وراء الفكرة الخبيثة، وقد أوحى للصهاينة أن مفهوم الشرف هو الأغلى.
وأداعب ذاك الذي يتحدث عن التدخلات العسكرية في سورية، وهي مرفوضة لدى كل سوري وخاصة من بقي في أرضه، يتحدث عنها، وهو ممن طلب التدخل، وطلب القصف، وتوسل العسكر الأجانب أن يكونوا في سورية، واليوم يأتي هو وجوقته ليتحدث عن وجود قوات أميركية كبيرة ومقاتلين دربتهم في سورية، ثم يبدأ سخرية عن السيادة ومفهومها، وغاب عن هذا أن الحرب على سورية لا تزال دائرة، وأن هؤلاء الذين يتحدث عنهم جاؤوا بناء على توسلاته، إن وجود أي أجنبي على أرض سورية مؤلم للغاية، ولا يقبله أي شخص ينتمي إلى سورية، لكن الأمر الواقع الذي خلقه هؤلاء في حربهم الضروس على سورية هي وراء ما حصل، ووراء تدخلات قوات عديدة نسمع عنها هنا أو هناك، ولكن غاب عن هؤلاء المتحدثين من أي منبر كان أن المنبر الذي يتحدث فيه ينتمي إلى دول فيها من المعسكرات الطوعية ما لا يحصى، فمنذ عقود بعيدة نسمع عن الكامبات والمعسكرات التي تخص هؤلاء العسكر الأجانب، ويمنع على أبناء الدولة التي هي فيها الاقتراب من المعسكرات، بل إن طعامهم وشرابهم يأتيهم من بلدانهم، واحتفالاتهم الصاخبة الماجنة لا يقترب منها أحد في بلاد يفترض أن تأنف هذا الأمر، لكنهم لا يرون هذه القواعد الراسخة التي وصلت يوماً ما إلى الحرم المكي، هذا عيب، والفرق الجلي بين الحالين أن تلك القواعد، وأولئك العسكر جاؤوا بالرضا التام، أما ما يتحدث عنه في سورية فقد دخل بسبب الحرب القذرة على سورية، وفاته أن الحرب في سورية لا تزال مستعرة، وأبشره أن الحرب في سورية في نهايتها ستجرف كل ما يتحدث عنه ويسخر منه، فلا دول ولا تقسيم ولا جماعات، ولا أي شيء مما يتحدث عنه سيبقى، وإن كانت المشكلة في استضافة بعض القنوات لمن يسمون بالمحللين، وهم لا علاقة لهم بالتحليل، فالمشكلة فيمن تحدث، وفيمن استضاف، وفيمن أهمل التدريب الحقيقي لمحللين قرؤوا التاريخ والشعوب وآلاف الكتب.
يا هذا.. إن مستقبل سورية لا يؤخذ من محلل كل ما يعنيه شهوة الكلام وما سيتقاضاه مقابل ظهوره، مستقبل سورية يؤخذ من الإنسان السوري، ولا أقول من الدولة السورية وحدها، فالسوري عبر تاريخه لا يقبل وجود أحد على ترابه، وإن بقي أحد، وفي سورية ومصر وحدهما، فإنه سينصهر في ترابهما ليصبح جزءاً من المجتمع، لكن ما نفعل في المتحدث والساخر على السواء، وهما لا يعرفان أن أسراً في سورية تفوق بعددها دقائق إسهاله اللفظي ليست سورية الأصل، لكن سورية صهرتها وجعلتها جزءاً من المجتمع، وإن عاند القدر بعض الشيء، وبسبب من التآمر الشديد عليها في إنهاء الأزمة، فإن هذه الأزمة ستنتهي، ومع نهايتها وتوقف الحرب لن تجد أي شخص من هؤلاء، سواء كانوا مرتزقة في الخارج، داعين إلى ضرب سورية والتدخل الخارجي، أم كانوا من تجار الحرب في الداخل، وستبقى سورية منذ أكثر من قرن صاحبة المؤسسة العسكرية المهمة التي لم يستطع أحد أن ينال منها، وهذه المؤسسة ستستعيد دورها، وستعمل على تطهير سورية، فبانتهاء الحرب على سورية ستبقى راية الجندي السوري مرفوعة وسيجوب بقاع سورية كلها بحثاً عنك وعن أمثالك ليطهرها، وإن كان الظرف اليوم لا يسمح بمثل هذه الجولات، فبفضل حضرتك، وبفضل أولئك الذين رضعوا خيرات سورية واستفادوا من كل شيء، ومن ثم انحازوا إلى معسكر تدمير سورية، وانظر إليهم وهم يعصرون أعينهم حزناً على سورية ومدنها وإنسانها، من المؤكد أن ما يحدث مؤلم ومحزن، وأن كل ذرة تراب غاية في القيمة، وأن كل قطرة مهمة من الدم السوري، لكن علينا أن نبحث في الغد، فمن جنى وألهب الجماهير، وعندما انتهى دوره اعتكف وجلس للاستمتاع بالمال وما جناه ليس من حقه أن يتحدث، ومن يتحدث اليوم عندما ينتهي دوره سيعتكف كذلك، والجهلة الذين يتحدثون سيختفون، وتجار الحروب سيذهبون، والباقي وحده هو السوري القادر على الفصل التام، والقادر على إصدار أحكام لا لبس فيها.
إن ما يحدث على الأرض السورية قاتل، وما يجري للسوريين، أكثر من قاتل، ولكن ما لا يعرفه هذا الشخص، ولم يمر في خريطته البيولوجية هو التاريخ السوري، فكل سبع عجاف يتبعها سبع سمان، وهذا السوري يحفظ جيداً ويؤرشف، وليس بحاجة إلى تقانتك وإعلامك، وهو يسجل في ذاكرة لم تشخ ولن تشيخ كل الأسماء، كل الوجوه، كل الأقوال، كل الكتابات، كل الاعتداءات، كل الإهانات، وكل النجاحات، وكل يد حانية احترمت سوريته ولم تتسول عليه، السوري لا ينسى، وهذا ليس من قبيل الإنشاء، لكن السوري هو الزمن، وهو الذاكرة، وسمة الزمن الاختمار، وعندما يختمر كل شيء سيجرف السوري كل ما يعترض طريقه، وسيسجل تاريخاً جديداً، وهو وحده القادر على طي أي صفحة كانت ليبدأ صفحة هو سيدها، لا يحتاج إلى أن تتحدث عن مجده، ولا عن واقعه المحزن، هو في لحظة الاختمار سيظهر مارداً لا يبقي أمامه ولا يذر، سيحاسب وحسابه شديد، لأنه لا يقبل طي صفحة ملوثة، إنه يمزقها ولو لم يملك يدين فبأسنانه، يتشبث بأرضه ولو لم يملك قدمين فبتجذره بالتراب.
حاذروا عندما ينهض السوري لن يرحم عميلاً وتاجراً، ولن يغادر الدنيا وعلى أرضه سورية قدم ملوثة، من حاضرة هارون الرشيد إلى جبلة بن الأيهم وإلى شام العظيمة وحلب سيف الدولة، سورية حاضرة لا تعرف التلوّن، وستبني جسرها المعلق على الغد، والفرات وبردى يجرف كل الجيف، ويبتلع كل ما كتب الكاتبون وما قال المحللون الذين يتظاهرون بالخوف والحرص، وهم حاقدون يغارون من شام وشاماتها، ستشرق الشمس غداً وتكون سورية وشام بحفظ الألوهة، ويرحل الحاقدون ولا أثر لهم، لشام وحدها أنشودة البقاء والخلود، وراية لا يستطيع الزمن أن يوقف خفقانها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن