ثقافة وفن

قصور سادت ثم بادت .. حين حُكِمت دمشق من ضفة بردى

| شمس الدين العجلاني

تضم دمشق العديد من الأحياء العريقة والأسواق والخانات والمساجد والكنائس والمدارس والشوارع المرصوفة والقلعة والسور الروماني والقصور للحكام والأعيان، منها ما اندثر ومنها لم يزل شاهداً على تاريخ مدينة عريقة عتيقة ولدت قبل التاريخ لتكتب التاريخ.
العديد من معالم دمشق القديمة تعرض للتدمير بفعل الزلازل والحروب والإنسان، تتحدث المصادر التاريخية عن قصور الملوك والسلاطين والأمراء والحكام التي كانت بدمشق في الزمن الغابر واندثرت، فيقال إنه كان بدمشق قصر ملك الآراميين الذي هدمه تغلات فلازار الثالث ملك الآشوريين خلال هجومه على دمشق عام 734 قبل الميلاد وإن هذا القصر كان في الشارع المستقيم عند حي مئذنة الشحم في مكان يدعى تلة السماكة.
كما تذكر المصادر عن وجود قصر هرقل الذي ظل مكانه معروفاً حتى عهد متأخر، وأنه كان قائماً في محلة النيرب القديمة التي كانت تقع شرقي الربوة بين بردى وفرعه تورا.
تذكر المصادر كذلك وجود قصر الغساسنة (البريص) ويعتقد أن مكانه كان في الشارع المستقيم الممتد بين باب الجابية وباب شرقي.
كما ظهرت قصور الأمويين بكثرة في دمشق، ولعل أهمها قصر معاوية «الخضراء» وقصر الحجاج إلى الجنوب الشرقي من باب الجابية.
وقصر عمر بن عبد العزيز ووالده من قبله إلى جوار الجامع الأموي، وكذلك قصر الخليفة هشام بن عبد الملك في سوق القلبقجية، وجميعها اندثر.
وفي العصر المتأخر في زمن المحتل العثماني، وجدت عدة قصور، كانت تدار منها شؤون البلاد، ومنها لم يزل قائماً حتى الآن، وبحاجه إلى رعاية الإنسان ليعود إليها ألقها.
ومن هذه القصور التي كانت تدار منها شؤون البلاد والعباد، دار السرايا.

دار السرايا

في زمن والي دمشق حسين ناظم باشا، قامت بلدية دمشق بإنشاء دار السرايا عام 1900 م، على الضفة الجنوبية لنهر بردى، وكان أضخم بناء شُيّد في ذاك الزمن وأصبح مقراً للولاة والحُكام عوضاً عن قصر كنج يوسف باشا الذي كان قائماً مكان بناء العابد في سوق الحميدية، ثم صارت دار السرايا مقراً للحكومات المتتالية منذ خروج المحتل العثماني من بلادنا إلى فترة زمنية متأخرة، حيث أضحى مقراً لوزارة الداخلية لغاية عام 2011 م، تعرض هذا البناء لتفجير إرهابي أتى على إصابته بأضرار طفيفة، ومن ثم أخلته وزارة الداخلية منذ ذاك التاريخ، وهو الآن «يلعب به الهواء»!
اتخذت دار السرايا عدة تسميات على مر الأيام، فعرفت بالسرايا الجديدة « بدلاً عن سرايا الحكم – قصر كنج يوسف باشا» وسميت سرايا الحكومة، ودار الحكومة، والسراي، والسرايا.
يعتبر قصر دار السرايا شاهداً على جزء كبير من تاريخنا، ومر عليه شخصيات وطنية بارزة، وحكام طغاة، ومحتلون عثمانيون وفرنسيون وبريطانيون.

وصف السرايا
شيدت هذه السرايا على ثلاث مراحل، لتكون مقراً للحكومة على الضفة الجنوبية لنهر بردى سنة 1900م، وذلك على طراز البناء الأوروبي، مع مسحة إغريقية يونانية قديمة، تتميز بالسقف الهرمي «الجملون» وهو دليل على أن الفنيين الأجانب قد نقلوا إلى دمشق الطراز المعماري الذي كان سائداً في بلادهم، والمختلف تماماً عن الطراز الذي عرفته دمشق في بناء قصر العظم، وقصر السعادة، وقصر كنج. فقد استقدم إلى دمشق لبناء السرايا المهندسون والفنيون الألمان والنمساويون والإسبان لتنفيذ المشروع وكان نقطة تحوّل في دخول الإسمنت المسلّح.
لقد كان طراز بناء السرايا مطابقا لطراز دار البلدية الذي كان قائماً في ساحة المرجة، وفي هذا الصدد يقول عبد القادر الريحاوي: «تمثل السرايا الحكومي الجديد مرحلة من مراحل التطور المعماري لمدينة «دمشق»؛ لأنه لا يمت بصلة للطراز المعماري الدمشقي السائد منذ عصور طويلة، حيث إنه من أهم الأبنية التي حاكت الطراز الجديد بعد قصر العابد، القصر الجمهوري، دار المعلمين، المستشفى الوطني، والثكنة الحميدية، حيث يعد ظهور هذا الفن الدخيل إيذاناً بانتهاء دور الفنون المعمارية الأصيلة وبداية مرحلة الغزو الحضاري الغربي للمشرق العربي.
حيث بنيت تلك الأبنية طبقاً لمواصفات العمارة الحديثة وذلك بإدخال الإسمنت المسلح الذي يعد من أهم مظاهرها، طابق طراز البناء طراز مبنى دار البلدية، وهو الطراز الكلاسيكي المحدث، وقد انتشر في فرنسا انتشاراً واسعاً، وهو طراز مطور ومبسّط عن الروماني القديم، يعد دليلاً على نقل الفنيين الأجانب الطراز المعماري الأوروبي السائد في بلادهم إلى مدينة «دمشق»، والمختلف تماماً عن الطراز الذي عرفته هذه المدينة الإسلامية في العصر العثماني كما هو الحال بناء قصر أسعد باشا العظم، وقصر السعادة، وقصر كنج يوسف باشا».
بنيت السرايا بالحجر، وفق هندسة المباني والقصور الأوروبية. كان المبنى على شكل مستطيل يمتد من الشرق إلى الغرب، وعلى ضفة بردى اليمنى، قريباً من ساحة المرجة، والعديد من الدراسات والمصادر تعتبره من أبنية ساحة المرجة، يتألف من ثلاثة طوابق يتخللها بروزات كالأبراج، أحدهما في الوسط والآخران في طرف البناء، ويتقدم المبنى درج للصعود إلى الطابق الأرضي، مؤلف من سبع درجات.
باب السرايا الرئيسي مفتوح في منتصف الواجهة الشمالية الرئيسية ويتقدمه رواق مسقوف محمول على سبعة أعمدة من الحجر الكلسي، ذات تيجان من الطراز الأيوبي، حجرها سماقي، وللطابق الثاني، شرفه سماوية بمنزلة سطح للرواق المذكور، وزودت الواجهات في الطوابق الثلاثة، بنوافذ مستقلة ولكنها تختلف بشكلها من طابق لآخر، فلها في الطابق الأرضي جبهة مثلثة يعلوها في الطابق الأوسط ساكف بارز على اثنين من المساند الجدارية، وفي الطابق العلوي نوافذ عادية ذات قنطرة نصف دائرية.
ويتألف المخطط العام للطوابق الثلاثة في الداخل، من ممر عريض يمتد على طول المبنى، توزعت على جانبيه الغرف، ويصعد إلى الطوابق العليا بواسطة درج عريض داخلي يتوسط البناء، درجاته من الرخام الأبيض، وله درابزين من الخشب المزين بزخارف.
أقيم أمام باحة السرايا سبيل ماء جميل مؤلف من أربع فساقي وعمود تذكاري كبير من الحجر قائم فوق مدرج، وله قاعدة مربعة وتاج مقرنص. وقد نحت على أحد جوانب العمود شعار الدولة العثمانية ونقش على الجانب الآخر الطغراء، توقيع السلطان عبد الحميد الثاني.
وعن التأثيرات الخارجية على عمارة السرايا، والجديدة على العمارة الدمشقية فهي واضحة، ففي الطابق الأول تبدو التأثيرات الإغريقية مسيطرة على شكل النوافذ بوضوح في جميع تيجانها ذات الانحناء الضعيف الهرمي أي (الأقواس القطاعية)، على حين تختلف أشكال النوافذ في الطابق الثاني لتأخذ شكل طراز البناء العثماني والمكون من فتحة نافذة رئيسية وأخرى علوية كمندلون بالإسباني ومتوجة بتاج حجري مسطح، إضافة إلى بروز الشرفة فوق مدخل المبنى وشكل أعمدتها على امتداد الواجهة عدا الجناحين، وتطل هذه الشرفة الطويلة على نهر بردى للاحتفالات الرسمية ولقد امتد هذا الطراز إلى بناء دائرة الأملاك السلطانية المجاورة لبناء السرايا من الغرب وكذلك بناء طبابة المركز المحاذية لدار البلدية.
أما الطابق الثالث فأخذ أشكال النوافذ الطابع الإسلامي ذات الأقواس نصف الدائرية كما هو متعارف عليه في معظم الأبنية الأيوبية والمملوكية بدمشق، كما يبدو على البناء بعض اللمسات الإغريقية (اليونانية القديمة) الظاهرة في الشكل الهرمي لجملون السطح الذي يعلو المبنى الضخم.
وكان بناء السرايا باكورة لعدد كبير من أهم المباني الحكومية التي بنيت بعده.

تاريخ وشاهد
على عجالة نقول إن قصر السرايا سجل تاريخي لبلادنا، وتشهد أروقته على الأحداث السياسية التي مرت وعصفت بنا.
لقد كان هذا المبنى منذ عام 1900م مقراً للحكم في البلاد، وبعد خروج المستعمر العثماني من دمشق، وقدوم الجنرال اللنبي والأمير فيصل الأول لدمشق إثر ما سمي الثورة العربية، كانت السرايا مقراً لنشاطهما، ويروى أن فرسان السويداء كانوا أول من رفع العلم العربي فوق السرايا معلنين الانتصار وهزيمة القوات التركية، في مبنى السرايا عقد أول اجتماع حكومي بعد خروج المحتل العثماني، وحين أعلن الأمير فيصل الأول ملكاً على بلاد الشام توج في السرايا بعد تتويجه في مقر بلدية دمشق الذي كان قائماً في ساحة المرجة، وحين دخول المحتل الفرنسي لدمشق، كانت السرايا ضمن مؤسساتهم، وحين أعلنت الحكومة العربية الأولى زمن المملكة السورية عام 1920م صارت السرايا داراً للحكومة العربية، وفي عهد الاستقلال كانت السرايا مقراً للحكومات السورية، واستقبل بها الرؤساء والزعماء العرب.
شهدت السرايا العروض العسكرية في الأيام الغابرات، وكان الحُكام يقفون على الشرفة الطويلة للسرايا لتحية الجماهير والعروض.
كما كان مبنى السرايا قبلة المحتجين على المحتل العثماني والفرنسي، ويروى أن «مقبولة الشلق» وهي أول حقوقية سورية تخرجت في جامعة دمشق، كانت ضمن مظاهرة تندد بالاستعمار الفرنسي، وأن مقبولة وقفت على درج السرايا الحكومي في ثلاثينيات القرن الماضي، وخطبت في الجماهير الثائرة منددة بالاستعمار الفرنسي وكان عمرها ست عشرة سنة.

وأخيراً
مبنى السرايا هذا شغلته وزارة الداخلية لسنوات عدة، ومن ثم انتقلت منه إلى بناء جديد وكان ذلك نحو عام 2011 م، ومن ثم تعرض في عام 2013 لتفجير إرهابي أصابه بأضرار طفيفة ومازال حتى الآن خالياً ولم يتم توظيفه.
قيل إن مبنى السرايا « مبنى وزارة الداخلية سابقاً» هو الآن بعهدة وزارة السياحة لتأهيله كفندق سياحي.
كم نتمنى أن يتم إعادة تأهيل مبنى السرايا الحكومي، ويوضع في الاستثمار، سواء كان سياحياً أم ثقافياً.
المراجع: الدكتورة د ماري دكران سركو – الدكتور عبد القادر الريحاوي –لطفي فؤاد لطفي – أرشيفي الخاص.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن