قضايا وآراء

في الزمن العربي الرديء لماذا اسُتهدفت سورية؟

| قحطان السيوفي

ثمة إجماع في الخطاب السياسي العربي على أن العرب يواجهون منذ تسعينيات القرن العشرين محنة تاريخية قد تكون الأخطر عبر التاريخ العربي، والمشهد اليوم يشير إلى زمن عربي مر، ورديء شنت فيه القوى الغربية والظلامية الإقليمية حرباً على الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية، على اختلاف توجهاتها، بدأت بالغزو الأميركي للعراق، ومن ثم أطلقوا ما سمي الربيع العربي بشعاراته الخلبية الخادعة عن الحرية والديمقراطية، ما أدى إلى زعزعة أسس المجتمعات العربية، وتهديد وجودها ذاته ليجعلها تعيش عصر انهيار النظام العربي، وتدمير الدولة الوطنية العربية، وقد حقق هذا الربيع المزعوم المزيد من الفوضى والتخريب والدمار والقتل في الدول المُستهدفة، ليبيا واليمن وسورية، لكن الأخيرة صمدت بشعبها ومؤسساتها وبسالة جيشها العربي السوري.
أمام هذا المشهد تعود بي الذاكرة إلى آخر لقاء مع جلالة إمبراطور اليابان أواخر العقد الماضي، وبمناسبة انتهاء مهمتي كسفير فوق العادة لبلدي سورية في اليابان حيث كرمني الإمبراطور كسفير لبلدي بتقليدي وسام الوشاح الأكبر لبلاد الشمس المشرقة، وهو أرفع الأوسمة في اليابان، واستبقاني على الغداء وحدثني جلالته بمودة وإعجاب عن سورية مهد الحضارات التاريخية العظيمة المتعاقبة، وأشار يومها إلى أهمية وعظمة تدمر وحضارتها الخالدة، وأكد جلالته أن سورية بلد غني بتاريخه العريق الضارب في القدم، وثرواته الحضارية الهائلة، وأضاف بلهجة مفعمة بالود والحرص: إن سورية بحضاراتها العريقة قد تكون مُستهدفة، يوماً ما، من قوى غير إنسانية، وعندما عرض الإعلام مشاهد تظهر كيف قام الإرهابيون التكفيريون في تنظيم داعش بتدمير الآثار الحضارية لتدمر، تذكرت ما قاله الإمبراطور عن أن بلد الحضارات قد يستهدف من الإرهابيين الظلاميين.
نعم اسُتهدفت سورية الدولة بشعبها ومؤسساتها وثقافتها وحضارتها من الإرهاب التكفيري الظلامي المدعوم من الغرب وإسرائيل والممول من دول إقليمية، وكانت المقابلة التلفزيونية لرئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم اعترافا علنياً وقحاً بالجريمة التي اقترفتها قطر والسعودية والولايات المتحدة بدعم وتمويل الحرب الظلامية على سورية.
لماذا استهدفت الدولة السورية؟ لقد استهدفت لأن سورية قلب العرب النابض، حملت المشروع النهضوي القومي العربي الذي يعتبر فلسطين قضيته المركزية، وبنت جيشاً عقائديا لحماية الأمن القومي ومن ضمنها القضية الفلسطينية، سورية اسُتهدفت لأنها تبنت التنمية الاقتصادية والاجتماعية سبيلاً للانتقال من التخلف إلى التقدم ومن الجهل إلى العلم، واستثمرت الثروات الوطنية بأيد محلية وطنية، وسورية اسُتهدفت لأنها بلد التسامح والمحبة وحرية المعتقد ولأن لديها تاريخ عميق في تنوعه وتعدديته وهي مهد أقدم الحضارات البشرية العظيمة.
إن سورية بجيشها وشعبها مستمرة بالتصدي للمؤامرة الإرهابية الكونية، وهزمت تنظيم داعش الإرهابي وتتابع استعادة الأراضي السورية التي تحتلها التنظيمات الإرهابية الأخرى وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، غزا الجيش التركي شمال سورية ليستعيد الرئيس السلطان رجب طيب أردوغان أمجاد الرجل المريض بغطاء عسكري وسياسي أميركي، وبالتفاهم مع تل أبيب ويستخدم عملاءه من الميليشيات الإرهابية المتعددة الأسماء ويهدد بغزو عفرين، وموقف الدولة السورية واضح للتصدي لمثل هذا العدوان.
فلسطين الجريحة تشهد فصلا مأساويا مع اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وسورية الدولة والشعب تعتبر قضية فلسطين قضيتها المركزية بينما يحاول معظم الحكام العرب تحويل الأنظار عن إسرائيل المغتصبة لفلسطين ومحاولة خلق عداوة مع إيران.
يتضاعف البؤس ويتآكل الأمل، وتتناسل المستوطنات وتزداد المخيمات هنا وهناك وإسرائيل حقّقت في السنوات الأخيرة انتصارات مدوّية من دون أن تقاتِل، توهموا أن تساهم النكبة السورية في طي صفحة النكبة الفلسطينية نهائياً.
لكن سورية ستهزم المؤامرة الإرهابية العالمية، كما أن الشعب الفلسطيني يزداد ثقة بنفسه وسيرد بانتفاضة جديدة ليتصدى للعدوان، واليمن يتعرض لغزو عسكري سعودي، أدى لانهيار مؤسساته الوطنية، وتقطيع أوصاله وتفاقمت مآسي شعبه الفقير البائس، بينما مصر تعاني من ضائقة اقتصادية، ويستهدفها الإرهاب، بالمقابل يتحدث المواطن العربي عن تسلط لبعض مملكات ومشيخات الخليج وسرقتها لأموال النفط، وتمويلها للتنظيمات الإرهابية، يتطلع المواطن العربي إلى برنامج ثقافي تنويري شامل يرسّخ تلك الأفكار من خلال المثقفين الذين يجب أن يقوموا بهذا الدور التنويري من خلال الثقافة لإلحاق الهزيمة بعقل التكفير.
أمام المشهد العربي المأساوي المتخلّف سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، يحضرني السؤال المهم الذي طرحه جيل المنورين العرب في عصر النهضة العربية الأولى، وهو: «لماذا التخلّف العربي وكيف نكتسب أسباب التقدم»؟! وبالتالي أتساءل مع المواطن العربي، لماذا وصلت الأمة إلى هذا الحد من التفتت والانحلال؟ ولماذا فشلت كل المشاريع التوحيدية؟
هناك شبه إجماع أن العالم يعيش عصر ما أطلقوا عليه «الاضطراب العالمي»، وتسوده موجات عارمة من الفوضى السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية وانتشار ظاهرة الإرهاب المعولم. والعالم العربي يعيش اغتراب الفكر القومي، ومأساة التخلف والفوضى الخلاقة التي بشرت بها وعملت لتحقيقها الإدارات الأميركية المتعاقبة مع سفك المزيد من الدماء العربية، ومشهد العالم العربي يظهر أن الإنسان العربي محاصر بإخفاق تنموي، حيث الفقر والأمية والخيبة والإرباك أمام شيوع خطاب التكفير وغياب قيم التسامح والعجز عن الانخراط في حركة العصر العلمية الإبداعية وتفاقم الفجوة الطبقية، وغياب المشروع العربي القومي، وتردي حال المؤسسات الثقافية.
إنه زمن عربي مر، ورديء تتعرض فيه الأمة ومشروعها النهضوي العربي لمؤامرة تحالفت فيها أميركا وإسرائيل ودول إقليمية عربية وغيرها دعمت ومولت الربيع العربي والإرهاب لتدمير دول عربية جمهورية، لكن سورية المقاومة صمدت مع حلفائها وهزمت الإرهاب وأسقطت المؤامرة، لتستعيد أمنها ووحدة أراضيها، ولتبقى سورية مهد الحضارات رائدة في حمل مشعل الثقافة التنويري للمشاركة في حركة العصر العلمية وإحياء مشروع النهوض العربي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن