اقتصاد

نافذة «بتكوين»

| علي محمود هاشم

عصر البترودولار يترنح، هذه الخلاصة أقرتها -ضمنياً- إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة لدى اتهامها القوى الصاعدة عالمياً بالسعي لتحطيم «الازدهار الأميركي» الذي لطالما اعتاش على نهب الشعوب خلال العقود السبعة الماضية بعد تسلل الدولار إلى اقتصادياتها عبر نافذتي «الذهب» و«النفط».
«نافذة الذهب» التي فتحها اتفاق «بريتون وودز» منتصف أربعينيات القرن الماضي باعتماد الدولار كمعادل للذهب، أغلقتها الولايات المتحدة الأميركية مطلع سبعينياته إبان مطالبة أوروبا باحتياطياتها الذهبية المرهونة في خزائن الفيدرالي الأميركية بعدما أزالت تكاليف حرب فيتنام الغشاوة عن أعينها حيال ما تعرضت له من استغلال، قبل أن تستبدلها بنافذة «نفطية» شقّها اتفاق «كيسنجرفيصل» عام 1974 وملخصه بيع النفط السعودي بالدولار حصراً وتدوير عائداته بسندات الخزينة الأميركية، مدشنا بذلك «عصر البترودولار».
مطلع القرن الحالي، ومع تزايد نزعات الدول الناهضة للتملص من قيود «البترودولار» وإسدال الستار عن مسرحه الذي مارس «الازدهار الأميركي» فوق خشبته أبشع رقصاته على جثث الشعوب وثرواتها، ذهبت دولٌ نفطية إلى تنويع مبيعاتها باعتماد عملات ومكافآت سلعية بديلة للدولار. في خلفية المشهد الجديد لتجارة الطاقة العالمية، ولد «بتكوين» في 2009 من رحم العالم الافتراضي كعملة رقمية خالصة لا وجود فيزيائياً لها، بل مجرد خوارزميات مشفّرة يتم تبادلها عبر الإنترنت.
من الوجهة النقدية، يقف المرء مذهولاً أمام عبقرية «بتكوين»، فهذه العملة المشفرة تجمع بطريقة منهجية محددات القيمة لدى الاقتصاديين الماركسيين والرأسماليين، فهي تنطوي على «منفعة» الالتفاف على الرقابة بأنماطها المحلية والدوليةـ وتشكل وسيلة مناسبة لتبييض الأموال وتمويل العمليات اللامشروعة بما فيها الإرهاب، كما أنها تستوي وقانوني «العرض والطلب» و«الندرة» تبعاً لسقف إصداراتها المتاح «راهناً» عند 21 مليون «خوارزمية/ قطعة» حتى منتصف القرن القادم.
تتساوق «بتكوين» أيضاً مع قانون القيمة الماركسي، إذ يتم «سكّ» خوارزمياتها من «منتجين» باستخدام حواسيب عالية القدرة، وهذه العملية التي تستهلك كمية ضخمة من الطاقة الكهربائية كمادة أولية، أُطلق عليها اسم «التعدين» في لفتة تحاكي الذهب والمعادن التي كان لكل منها كرّته كمعادل قيمي في تاريخ النقد، ورغم أن الآلة هي من يبذل مجمل الجهد في تكوين «بتكوين»، فإن تسمية الـ«تعدين» كناية عن كمية عمل يتم إنفاقها في سكّه، وهذا يمثل جوهر «القيمة الماركسية».
في مفارقة مريبة، حققت «بتكوين» انتصاراً مذهلاً بتضاعف قيمتها بنحو 290 ألف مرة في 8 سنوات، متصاعدة من 16 بتكويناً للدولار في 2009 إلى «بتكوين» لكل 17 ألف دولار في 2017، هذا الانتصار الذي عادة ما يحظى بآباء كثر، لم يفصح الواقفون خلفه عن أنفسهم، ما يثير تكهنات متناقضة حيال «أبيه» الشرعي وأهدافه!
تبعا لتوقيت ولادته، تتخذ الشكوك مشروعيتها حيال ابتكار «بتكوين» كنقد دولي جديد يجاري الرفض العالمي لـ «البترودولار»، وفي الواقع، فهذه الشكوك تستدرج هي الأخرى الكثير من الشكوك المقابلة.
فمن جهة، ورغم ما يمثله «بتكوين» من تهديد ظاهري لهيمنة الدولار عبر اجتزاء قسم من موازين المدفوعات العالمية من مظلته توازي نحو 400 مليار دولار، فإن بقاءه مقوّماً بالعملة الأميركية إنما يتمظهر كنافذة جديدة تحاكي ما قدّمه الذهب للدولار إبان اتفاقية «بريتون وودز»، قبل أن يُستعاض عنه بالنفط في «كيسنجر- فيصل».
كما أنه، ورغم التفاؤل النظري الذي تبديه ولادة «بتكوين» حيال قرب نهاية «البترودولار»، إلا أن تنحية الدولار كمعادل للقيمة في التجارة العالمية يبدو أكثر عسراً، لأن أي نقد يحتاج إلى قيمة ترابط خلفه لدى اعتماده كمعادل، «بتكوين» ورغم عبقريته، فهو يفتقر لذلك، لا بل يعاني منغصات موضوعية تتعلق بتبدّل كلفة «الكهرباء» التي تعد أبرز أوليات تصنيعه على سبيل المثال، كما أنه يحاكي أحد تناقضات الرأسمالية، فمن حيث كونه «بضاعة» تخضع للعرض والطلب، يجب أن ينخفض سعرها مع زيادة الإنتاج، وهذا الأمر متاح ولو عبر مصفوفات أو محافظ رديفة!
وسط هذا التناقض، يبدو «بتكوين» أقرب إلى أحد تطبيقات «الواقع المعزّز» منه إلى النقد، ومع ذلك، وسواء كان منتجاً أميركياً أم لا، فإن الولايات المتحدة بدأت توظيفه بالفعل بما يخدم استمرار هيمنة الدولار من خلال تعزيز شكله كـ«نقد/ بضاعة» عبر إدراجه في بورصاتها، وسط نيات معلنة لكبار متموليها بجعله منافساً لـ«الذهب»، لا بل: «هذه مجرد بداية، ونحن بالتأكيد لن نتوقف عند هذا الحد»، وفق ما نقلت «بلومبيرغ» عن الملياردير الأميركي كاميرون وينكلفوس قبل أيام.
في ظل المشهد المعقد هذا، يعاود الغموض كرّته: هل تقف أميركا خلف «بتكوين» كاحتراز يائس لما قد يطرأ على ركائز عصر «البترودولار» أم هم منافسوها؟ هل هو تناذر لانقسام عمودي يعصف بالغرب على ضفتي الأطلسي أم إنه مجرد أداة لتقليص الاحتياطيات الدولارية لدى مناهضي «البترودلار» شرقا؟ هل يجسد بالفعل شيفرة معقدة لتفكك «عصر البترودلار» أم إنه نافذة جديدة «عصرية للدولار»؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن