ثقافة وفن

من الدفاتر القديمة لإذاعة دمشق بداية البدايات لإذاعة دمشق … محاضرون ومنشدون وموسيقيون ومطربون عملوا دون أجر مادي إكراماً لمدير الإذاعة

| شمس الدين العجلاني

المتعارف عليه ضمن أدبيات إذاعة دمشق أنها أنشئت في السابع عشر من شهر نيسان عام 1946 م وافتُـتحت يوم الجلاء باحتفالاتٍ أقيمت بهذه المناسبة، واستمر البث ست ساعاتٍ متواصلة، وكانت تعمل هذه الإذاعة بقوة (5.7) كيلو واط على الموجـات القصيـرة، أما استديو البث فقد كان عبارة عن غرفة من دائرة مصلحة البريد، وكانت هذه الإذاعة تابعة إدارياً إلى مديرية البريد والبرق والهاتف.
أول صوت حينها انطلق من الإذاعة هو صوت الأمير يحيى الشهابي حين بدأ الإرسال بعبارة «هنا دمشق» وبقيت العبارة هذه إلى يومنا هذا تصدح من إذاعتنا.
فهل يعني ذلك أن سورية عرفت أول بث إذاعي عام 1946م؟
تضاربت الآراء في الدفاتر القديمة لرجالات الإذاعة السورية والمهتمين في الأمر، وتروي الصفحات القديمة أن دمشق عرفت البث الإذاعي منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، واختلفوا في تحديد العام الذي بدئ فيه أول بث إذاعي فقيل عام 1936م، وقيل عام 1938م… ومن ثم اختلفت التسميات عن مؤسسي الإذاعة في الأربعينيات من القرن الماضي فيقولون إن يحيى الشهابي ونشأت التغلبي هما من أسساها، على حين يروي سامي الشمعة أنه هو من أسسها!
إذاعة دمشق تعرضت للكثير من المشاكل والعقبات خلال عمرها المديد في مرحلة التأسيس الرسمي وما بعده وقبله، وأن الإذاعة لقيت الدعم والمساعدة من رجالات سورية ومؤسستي المجلس النيابي ومجلس الوزراء، ولكن عامة الناس في فترات متباينة اتهموا الإذاعة بالفوضى والمحسوبيات، وأيضاً هنالك من اتهم عدداً من الفنانين والفنيين والمذيعين بالهروب إلى التلفزيون تاركين وراء ظهرهم الإذاعة!
ولا تنسى الصفحات القديمة لإذاعتنا ذكر أنها كانت المحطة التي انطلق منها أهم الفنانين العرب.
حكايات تناقلتها صفحات صحفنا ومجلاتنا عن بدايات الإذاعة السورية والعقبات التي اعترضتها ومواقفها القومية والوطنية المشرفة.

بدايات إذاعة دمشق
يحكى أن الإذاعة السورية بدأت أولى خطواتها زمن الانتداب الفرنسي في الثلاثينيات من القرن الماضي، ففي عام 1936م أقيم في مدرسة التجهيز الأولى «مدرسة جودة الهاشمي الآن» معرض للصناعات الوطنية السورية، وأنشئت في هذا المعرض إذاعة محلية وكان المذيع آنذاك نشأت التغلبي، ويعتبر التغلبي أول إذاعي عرفته سورية، وكان له الدور الرائد فيما بعد بتأسيس الإذاعة الوطنية. لم يعرف الكثير عن إذاعة دمشق خلال هذه الفترة، ومن ثم أنشئت في بداية الأربعينيات من القرن الماضي في ظل الانتداب الفرنسي أيضاً إذاعة صغيرة بدمشق، وعهد بالإشراف عليها للصحفي سامي الشمعة.
على حين تذكر الموسوعة العربية أن هذه الإذاعة أنشئت عام 1938م، عندما افتتحت سلطة الاحتلال الفرنسي محطة إذاعية في ساحة النجمة في دمشق، لا يغطي بثها سوى دمشق. وبمحض المصادفة قدَّم يحيى الشهابي ذات يوم بدلاً من صديقه نشأت التغلبي نشرة الأخبار بالفرنسية ثم بالعربية، فأُعجب به مدير الإذاعة الفرنسي وتعاقد معه، واستمر يحيى الشهابي يعمل في هذه المحطة حتى عام 1945م، حينما قامت القوات الفرنسية بقصف دمشق والمجلس النيابي، فأضرب هو والتغلبي عن العمل، فحكمت عليهما السلطات الفرنسية بالإعدام، فهرب التغلبي إلى حمص، أما الشهابي فقد أنقذه جندي سنغالي كان يحرس مبنى الإذاعة، وكان الشهابي يساعده على التفقه بشؤون الدين.

إذاعة عام 1940م
تروي الدفاتر القديمة لإذاعة دمشق أنه ما بين عامي 1940م– 1941م أنشأ المستعمر الفرنسي بدمشق إذاعة صغيرة بقوة خمسة كيلو واط في حي الحبوبي في دمشق، وأطلق عليها اسم «محطة دمشق العربية» وكانت تبث برامجها باللغة العربية عدا نشرات الأخبار فكانت بالفرنسية والإنكليزية، وكانت تذيع أخبار معارك الحرب العالمية الثانية وعهد بإدارتها للصحفي سامي الشمعة صاحب جريدة آخر دقيقة.
ولكن هنالك بعض المصادر ومنها الموسوعة العربية تشير إلى أن هذه الإذاعة أنشئت في ساحة النجمة في دمشق، وكانت تبث برامجها باللغة العربية عدا نشرات الأخبار فكانت بالفرنسية والإنكليزية، وكانت تذيع أخبار معارك الحرب العالمية آنذاك، وكان نشأت التغلبي ويحيى الشهابي المسؤولين الوحيدين.
على حين تشير مصادر أخرى إلى أن مؤسس هذه الإذاعة هو سامي الشمعة فهو مؤسس الإذاعة السورية عام 1940 وأول مدير لها، وكان نائبه الصحفي نشأت التغلبي، وعندما وقع اختيار المستعمر على سامي الشمعة ليكون مديراً لهذه الإذاعة السورية، استغرق إقناعه وقتاً وضغطاً كبيرين، ولم يوافق على العمل بها إلا عندما أقنع أن الإذاعة الوطنية ستلعب دوراً مهماً في سبيل مصلحة الشعب السوري والقضية السورية، تسلم الشمعة إذاعة دمشق ليكون أول مؤسسيها مع التغلبي وليعمل جاهداً على إعداد برامجها وموادها وإن كان في أحيان كثيرة على نفقته الخاصة، وقد استاءت السلطات الفرنسية آنذاك من تصرفات الشمعة حين كان يرفض بعض المواد المرسلة له من سلطات الانتداب وخاصة تلك التي كانت تتضمن مواد دعائية للفرنسيين وحلفائهم، وحين يضغط عليه لبثها كان يقوم بذلك بعد أن يحذف منها ويعدل فيها حسب ميوله الوطنية والقومية إلى أن استقال من الإذاعة بعد سنة ونصف السنة، وعين مكانه الصحفي نشأت التغلبي.
يروي سامي الشمعة في إحدى مقالاته الصحفية قصة تأسيس هذه الإذاعة فيقول: « قابلني السيد ميشيل أبو راشد القائم بشؤون المراقبة في دائرة المطبوعات، وقال لي إن الفرنسيين أنشؤوا محطة إذاعة في دمشق وسألني إذا كنت أقبل الإشراف عليها وإدارتها، وأخذ يقنعني بأن «استلام» هذه المحطة، إذا لم يكن من مصلحتي، هو على كل حال في مصلحة القضية السورية وقضية الحلفاء!
ووعدت أبا راشد بدرس الموضوع، وزيارة المحطة، وكان لي ما أردت، وسألت القائم على شؤون المحطة من الناحية الفنية، عن قوتها فقال إن قوتها لا تقل قوة عن محطة موسكو ولندن وبرلين!.
وسألت عن المسافات التي تصل إليها الموجات، فقيل لي إن المحطة تُسمع في شوارع لندن، والباراغواي، والهند الصينية!
وسألت عن موازنة المحطة المالية، فقيل لي إن «الحلفاء لا يقصرون» وهم حريصون على تأمين النفقات!
وسألت عن الغاية من إنشاء المحطة فقيل إن غايتها: (إذاعة الأخبار بسرعة وإعداد برنامج موسيقي وغنائي واسع في سبيل تأمين «كيف» الشعب السوري الكريم)!
ولم أجد في هذا الاقتراح، اقتراح مديرية المطبوعات، ثمة ما يحول دون الموافقة على «استلام» المحطة ولكنني ترددت!
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى تلقيت كتاباً من دائرة المطبوعات يبلغني فيه مديرها أنني عينت مشرفاً على المحطة، كما يبلغني قراراً من المفوض السامي ينص على: «أن هذه الوظيفة تابعة لقرار مصادرة الطنابر والبغال، والموظفين خلال الحرب، وأن الاستقالة منها لا يمكن أن تتم إلا بموافقة المفوضية!».
استلم سامي الشمعة «محطة دمشق العربية».. وبدأت المشاكل تعترضه منذ اليوم الأول! فقد كانت المحطة عبارة عن راديو، و«فونوغراف» و«علبة صغيرة» وبضع أسطوانات قديمة، ولا تزيد قوتها عن ثلث الكيلووات! ولم يتوافر أي شيئاً مما وعدوه به!؟
كانت هذه المحطة تستطيع أن تبث الأخبار والأغاني ووو… ولكن على من يريد أن يسمعها أن يكون في «الإستوديو» أو في الحي الذي أنشئت فيه وهو حي الحبوبي، وفي أحسن الأحوال نادراً ما تسمع هذه الإذاعة في منطقة عرنوس، أو ساحة الشهداء، أو باب الجابية! وكانت مدة البث خمس ساعات يومياً.
‏كانت موازنة هذه الإذاعة آنذاك لا تتجاوز ثمانمئة وسبعين ليرة سورية، وهي نفقات البرامج الموسيقية والغنائية وأجور قارئ القرآن الكريم الذي حرص المستعمر الفرنسي على تلاوة القرآن الكريم من خلال هذه الإذاعة إرضاءً لأهل دمشق على حد زعمه، فكان قارئ القرآن الكريم الذي يأتي من حي الميدان أو حي الصالحية، لا يزيد أجره عن ثلاث ليرات سورية، يدفع منها ضريبة تمتع وثمن وصل، وضريبة حرب، نصف المبلغ أو يزيد!
أما المطرب والفرقة الموسيقية فقد كانوا يتقاضون أجراً لا يتجاوز خمس ليرات سورية بما فيها ضريبة التمتع وثمن الطابع والوصل، وضريبة الحرب!
على حين كان يتقاضى المحاضرون من الدكاترة والأساتذة، وأعضاء المجمع العلمي، أربع ليرات سورية وربع ليرة! وكان منهم محمد كرد علي، وعبد القادر المغربي، وأديب التقي، والأمير مصطفى الشهابي
لقد عمل عدد من المحاضرين ومنشدي القرآن الكريم، والموسيقيين والمطربين من دون أجر مادي «كرمال عين» مدير الإذاعة سامي الشمعة، ولقد عمل الشمعة بكل جهده وطاقته لإنجاح هذه الإذاعة، فكان دائم الاتصال بأصحابه ومعارفه للمشاركة في برامج الإذاعة مجاناً، كما كان يقصد معارفه لاستعارة الأسطوانات وكل ما يلزم للإذاعة، وفي إحدى المرات طلب تشكيل فرقة موسيقية خاصة بالإذاعة فقالوا له: «ألف فرقة إذاعة، ولكن على حسابك»!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن