ثقافة وفن

أكثر من مئتين وخمسين أغنية … الذيب ترك مكتبة موسيقية غنية بالتراث الشعبي الجميل يجب المحافظة عليها

| سوسن صيداوي

عندما تنطق الكلمة الشاعرية بشكل صحيح يخرج اللحن مع الكلمة التي تنطقها. هذه جملة قالها الموسيقار محمد عبد الوهاب، تأكيداً لرقة الكلمة وصدقها السهل التطويع من خلال نوتات اللحن. خلال هذا الأسبوع ودّعت دمشق عزيزا، محبّا لسوريته، رفض أموال الاغتراب وعاد بعد سفر دام سبع سنوات أو أكثر- حتى إنه أطلق على نفسه عهدا بألا يبتعد عن وطنه لأكثر من عشرة أيام- عاد من اغترابه لا ليبني قصرا أو بيتا فخما، بل ليرّكب كلمات بسيطة، هي شعبية بامتياز، ليست بغريبة أبدا لأنها في النتيجة هي موروث شعبي سوري. ودّعنا الشاعر والكاتب السيناريست والملحن سعدو الذيب بعد أن قدم للمكتبة الموسيقية أكثر من مئتين وخمسين أغنية من كلماته وألحانه، وكتب العديد من المسلسلات الوثائقية والدرامية البدوية. توفي شاعر أغنية «ع البال بعدك يا جبل حوران» عن عمر ناهز 64 عاماً إثر تعرضه لوعكة صحية أدخلته المشفى حيث وافته المنية، وشُيّع إلى مثواه الأخير في مدينة السويداء، وصُلي على جثمانه الطاهر في كنيسة الآباء الكبوشيين للروم الكاثوليك قبل أن يوارى الثرى في مثواه الأخير في مدافن الكنيسة وسط حشد من فعاليات رسمية وأهلية وفنية ودينية. من أشهر أغانيه «يوم على يوم» التي غناها الراحل فهد بلان الذي جمعته به شراكة دامت سنين طويلة حصدت عشرات الأغنيات الناجحة، هذا وغنى له الكثير من الفنانين السوريين والعرب منهم: فؤاد غازي، الياس كرم، رفيق سبيعي، محسن غازي، وعمر العبداللات. ومن أعماله الدرامية «الدخيلة» و«شيما» و«جحا 2003» و«دموع الأصايل» و«الوتر الأخير»، إضافة إلى عدد من الأفلام الوثائقية والبرامج والشارات التلفزيونية والموسيقا التصويرية والأمسيات الشعرية.

من بداية القصة
ولد شاعرنا عام1954ضمن عائلة فقيرة الحال ماديا، غنية بالقيم وبمكارم الأخلاق، درس في المدارس الابتدائية بقرية «الدويرة»، والإعدادية والثانوية في السويداء، ومن هنا بدأت علاقته مع الكلمة متحاورا بين قلمه وورقته، فخلال أيام الثانوية كتب أول مقال وكان بعنوان: «على الرصيف» وتمّ نشره في مجلة «جيش الشعب». بعدها دخل جامعة دمشق كلية الآداب قسم الفلسفة، وقبل التخرج وبالتحديد في عام 1979 وبسبب العوز المادي، سافر إلى دول الخليج إلى السعودية، واشتغل في حقل الثقافة بجريدة «اليوم» لمدة ثلاث سنوات كتب خلالها الخواطر والشعر، بعدها اتجه إلى الأعمال الحرة، وبعد صراع مع الغربة متأثرا بشوق متأجج الحنين للوطن، مع غياب دام لأكثر من سبع سنوات، عاد شاعرنا الراحل إلى وطنه سورية ليبدأ المشوار الحقيقي.

الراحلان فهد بلان وسعدو الذيب
جاءت بدايات الشاعر سعدو الذيب بكتابة الأغاني وتلحينها بأول تجربة بأغنية «جتنا تبرقع» التي غناها الفنان «داوود رضوان». ولكن النقلة الحقيقية في الشعر الغنائي كانت عام 1986، ففي هذا العام كان اللقاء الذي خلّد شعره الغنائي مع الفنان الكبير فهد بلان بأغنية «يوم على يوم»، هذه الأغنية التي شُرّعت لها أبواب القلوب مفتوحة، وأصبحت من التراث الغنائي السوري، وبقيت الشراكة مستمرة ثلاثة عشر عاماً، قدم خلالها شاعرنا ثلاث عشرة أغنية، بل كان مع الراحل «بلان» على موعد مع مشروع وطني يشمل المحافظات السورية، بعد أن بدأ في السويداء بأغنية «غالي علينا يا جبل» ثم في محافظة دير الزور بأغنية «سلامين». القصة لم تنته هنا، بل في عام 1990 عاد الشاعر الذيب من الخارج، مقدما أغنية حملت البصمة الصوتية لشاعر الجبل «بلان»، وأيضاً حققت انتشاراً واسعاً وهي أغنية «يا طير»، بعدها تتالت الأعمال منها: شيالوا، حنيت، قسمة ونصيب، سفرهم طال، ترحل ولا كلمة وداع، طيور السما، دمعي اليوم، دنيا، وغيرها.

في كلمته الشاعرة
ينتقي شاعرنا الراحل مفردات كلماته من الواقع الاجتماعي، معالجا بها القضايا الوطنية والإنسانية، محمّلا إياها شحنات عاطفية كلّها صدق ومشاعر بليغة، الأمر الذي مكّنه من التألق في الأمسيات الشعرية في المراكز الثقافية، وحصده للإعجاب الكبير- من النقاد- في طريقة إلقاء قصائده المحكية، ولكن عن تحوله من الشعر الفصيح إلى المحكي، أوضح في أحد حواراته قائلاً: «كانت بدايتي في الشعر الفصيح، وبعد أن كتبت العديد من القصائد ونشرتها في مجلة «اليوم»، وجدت نفسي أميل نحو الشعر المحكي، ذلك لأنني لم أجد حاجزاً بيني وبين الناس الذين يحبون العامية من الشعر، وربما كان الشعر العامي الأقرب إلي، لأن الكلمة البسيطة تدخل الأفئدة دون استئذان، وأنا من خلال كتابتي للأغنية الشعبية الدارجة وجدت أن كلماتي تدخل القلوب، إذ ندر أن أجلس في مقعد أو مجلس شعبي داخل سورية وخارجها إلا ووجدت كلماتي تتردد على الشفاه، الأمر الذي دفعني إلى الميل نحو المحكي من الشعر، وفي النهاية القصيدة هي التي تكتبني لأنها تعيش في مخيلتي كثيراً حتى تخرج إلى النور».

جزالة وبساطة اللحن
الموهبة بسيطة، ولكن عندما تكون متعددة يصبح الأمر معقداً علينا في استيعابها، فلقد كان للراحل موهبة إضافية غير الشعر، حيث استطاع تطويع الكلمة مع اللحن كي تنسجم مع الواقع التراثي للحدث الاجتماعي، موثقا الأغنية الشعبية بين كلّ الناس. نعم… لقد تميّزت ألحانه بالجزالة والبساطة الفنية فهي قريبة للقلب والوجدان، وحتى عندما لحّن لصوت الجبل «فهد بلان» تمّكن من تقديم صوته بأسلوب جديد مختلف عن السابق مستغلا المساحة الصوتية للفنان الكبير مقدما له الألحان المناسبة، وهذا الأسلوب نفسه كان اتبعه في ألحانه التي قدمها للفنانين الشباب، حيث درس طبيعة أصواتهم وقدراتهم على أداء بعض اللهجات المحلية. ‏

في كلمته الدّرامية
في عام 1988 كان سافر الشاعر- وهنا في هذه المرحلة يمكننا أن نقول المؤلف سعدو الذيب- لمدة عامين إلى «دبي»، حيث انطلق بكتابة الدراما عبر مسلسل بدوي، مستفيداً من نشأته في مدينة السويداء السورية لكونها محاذية للبادية، مكتسباً اللهجات وبعض المفردات والعادات والتقاليد، ومكوناً مما لديه مكنوناً معرفياً وشاعرياً ولغوياً وتراثياً في كتابة سيناريو وحوار لمسلسل «الدخيلة» الذي مثّل فيه نجوم الدراما السورية، وكان حصل العمل على جائزة أفضل عمل عربي في محطة «دبي» ضمن استفتاء لجريدة الخليج. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من هذا العمل بدأ مشواره مع الكتابة الدرامية- التي لم تكن طموحه- من أجل تحسين وضعه المعيشي، وحول التجربة الدرامية للشاعر سعدو الذيب يقول: «أما الدراما وخلق الشخصيات الدرامية وحبكتها، أرى أن كاتب الدراما عندما يكون شاعراً، أو قاصاً، أو روائياً، تكون لديه تخيلات سردية قادر فيها على معالجة الشخصيات وإيجادها في الأمكنة المناسبة، ومعالجتها معالجة درامية بحبكة فنية تجعل من حركة الشخصية معنى وفعلاً، وهي تمكّن المخرج من إعطاء العمل بعده الفكري والثقافي أكثر، فأنا مازلت أبحث في زوايا صخورنا البازلتية وبين شقوقها حكايا الأهل والأجداد لأكون لها موثقاً، لأنني على يقين أن تحت كل ذرة تراب على أرضنا السورية توجد حكايا للبطولة والنضال والتاريخ، لم يتم تدوينها بشكلها الأمثل».
هذا وفي الفترة بين عامي 1989 و1997 قدم من المسلسلات الوثائقية والدرامية الكثير منها: شيماء، دموع الأصايل، نغم على وتر، جحا 2003. كما قدم دراسة معمقة في الموشحات وتفاصيلها منذ العصر الأندلسي حتى يومنا وهي بعنوان «الموشحات كنوزنا». هذا إضافة إلى «مجنون الشام» و«حكايات وأغانٍ على البال» حيث وثق في الاثنتين التراث الغنائي السوري.

في شعرية الكلمة قيل
هنا في هذا المكان لابد أن نستذكر ما قيل حول أغنية «عالبال بعدك يا سهل حوران». فلقد بيّن الكاتب الكبير «حنا مينة» رأيه فيها بزاوية كتبها في جريدة تشرين السورية، وحملت عنوان: «من البحر إلى الجبل». قال فيها: «لقد فُتنت إلى حد الإدهاش من عبارة (شرشف قصب ومطرز بنيسان)، وسعيت لمعرفة الشاعر الرقيق، العذب، الحلو الشمائل الذي قالها، فإذا هو الصديق الصدوق الذائب كسكرة الندي الكف كحاتم الطائي، الحافظ للمودات كحبة القمح التي منها وفيها يضرب المثل وتتجلى حكمة العطاء السرمدي. عنيت به الأستاذ والأخ ورفيق الدرب الطويل بغير قياس (سعدو الذيب)، (عالبال بعدك يا سهل حوران، شرشف قصب ومطرز بنيسان)، وأن يكون هناك شرشف قصب فهذا من خيال وتخيّل عجيبين في دنيانا، وفوق هذا أن يكون هذا الشرشف القصبي المطرز بنيسان موجوداً في حياة أمة إلى العروبة منتماها ومفداها، فإن ذلك من الابتكارات النادرة في حياتنا كبشر». وقبل حنا مينة كان الراحل محمد الماغوط قال: «ألحان وكلمات سعدو الذيب الأقرب إلى الروح».
من جانبه تحدث المخرج الدكتور تامر العربيد عن الفقيد ونتاجه الإبداعي قائلاً: «حين نتكلم عن سعدو الذيب فإننا نتكلم عن صاحب الرسالة الإبداعية والفنية الذي كان ينتمي لهذا الوطن قولا وفعلا بشعره وفنه وأدبه وصوته، فكان في كلامه وغنائه السهل الممتنع، وفي الدراما التي كتبها كان قريبا من الناس، إن رحيله خسارة كبيرة للجميع لأنه من الأصوات التي كانت تحكي عن الهوية والانتماء وحب الوطن والناس». ‏
في حين أشار المطرب داوود رضوان إلى أن الفنان سعدو الذيب كان شعلة وقّادة على الساحة الفنية، بإبداعاته المتنوعة سواء أكان شاعرا أم كاتبا أو ملحنا متميزا، بدليل الحالة الإبداعية التي أوجدها، مشيراً إلى أنه غنّى بصوته أول عمل للراحل وهي أغنية تراثية تمت إعادة توزيعها بعنوان «جتنا تبرقع» حيث لاقت هذه الأغنية نجاحا جماهيريا، فضلا عن تعاونهما في 10 أغان وطنية وتراثية بعد رحيل الفنان فهد بلان.

إثبات أهمية الأغنية الشعبية
الأغنية الشعبية برأي المختصين هي من السهل الممتنع، لأنها قريبة جداً ومعقدة في إنتاجها، فالأغنية الشعبية واحدة من الفنون العربية التي تساهم دائماً بالمعالجات الاجتماعية في نواح عدة من الحياة التي تتالى بأيامها، ويبقى لها الأثر الإيجابي في مواكبة كل الأحداث وكل الظروف السائدة وكل المعاناة اليومية، والقضايا المركبة والمعقدة، الأغنية الشعبية هي مواكبة لتطور المجتمع لأنها تسير معه وأحياناً قد تسبقه، بساطتها تجعلها قريبة من الجميع وبكل الأطياف فهي تتردد على ألسنة الناس وتدخل الأفئدة من دون تكلف، وبالطبع جاء ملحنوها بالتضامن مع شعرائها مقدمين إياها كي تصبح موروثا شعبيا للمجتمع المحلي الذي ينتمون إليه. وهنا ولمناسبة المقال لابد من الذكر أن شاعرنا الراحل «سعدو الذيب» وهو كاتب للدراما وشاعر وملحن، فكيف استطاع أن يثبت أهمية الأغنية الشعبية، وأن يعطيها قدرا مهما في الساحة السورية بشكل خاص وفي العربية بشكل عام، وأن يُعلي من مكانتها رغم أنها ملتصقة بعادات وتقاليد أرياف يكمن فيها روح البساطة والمحبة. السر هو أن الراحل يجمع موهبة مقدّرة. وهنا نأتي على ذكر بعض من الأغنيات الشعبية التي تغنينا بها وستبقى موروثا تتناقله الأجيال إن تمّت العناية به من حيث الحفظ والنشر في الوسائل المرئية والمسموعة. منها: لفهد بلان أغنية «يوم على يوم»، وقدم للمطرب فؤاد غازي أغنيتين: «هلي يا شام، وأنت عيني»، وفي مهرجان الأغنية السورية أعطى الفنانة كنانة القصير أغنية «أحبك»، كما أعطى الفنان الشاب سمارة سمارة أغنية «عيني أنت عيني»، وكذلك الفنان أحمد الأحمد «يا مشنشلة بالذهب». وبالطبع القائمة تطول.

سيرة جديرة بالذكر
– في مجال الأغنية الشعبية كتب ولحن أكثر من ثلاثمئة عمل موسيقي قدمها بأصوات: فهد بلان، فؤاد غازي، رفيق سبيعي، الياس كرم، محسن غازي، عمر العبد اللات، سمارة سمارة، برهان القصير، ناديا المنفوخ، كنانة القصير، أحمد الأحمد، وغيرهم.
– في الطفولة ألف سبع أغان.
– في مجال كتابة الدراما قدم تسعة أعمال منها: المسلسل البدوي «الدخيلة»، ودراسات مطولة عن الموشحات وتفصيلاتها تحت عنوان «الموشحات كنوزنا»، و«دموع الأصايل» باللهجة البدوية، وأيضاً مسلسل «العود»، والعمل البدوي «شيماء»، وعمل كوميدي بعنوان «جحا 2003»، و«نغم على وتر» بطولة فنان الشعب «رفيق سبيعي»، و«أحلام على الورق»، إضافة إلى «حكايات وأغانٍ على البال» وهو وثائقي عن التراث الغنائي السوري.
– قدم سبعة أفلام وثائقية وهي: خيال يرمح على الشمس، وعد، طريق إلى ميسلون، رجالات الثورة، على الرصيف الآخر، شيخ الفنانين، وفيلم عن الكاتب الراحل ممدوح عدوان.
– قدم ثلاث شارات موسيقية تصويرية لمسلسلات هي: «على موج البحر، صورة وأسطورة، مذكرات مدير مدرسة».
– كتب في مجلة «أصداء فلكية» لمدة عام في صفحة الأدب والشعر.
– كتب في مجال حقل الثقافة بجريدة «اليوم» لمدة ثلاث سنوات ناشرا خلالها الخواطر والشعر.
– حصل على شهادات لباحثين في التراث السوري، كي يُبيّن التراث الحقيقي للمناطق من خلال إعادة إحيائه له في تصوير الأغاني والأهازيج التي كادت تندثر في عصر السرعة والاستهلاك.
– شارك في أماسٍ شعرية في عدد من دور الثقافة في سورية بدعوات خاصة من دور الثقافة بالمحافظات. كما شارك في مهرجان «طرطوس»، ومهرجان الجبل الأول الذي قدم فيه أمسية شعرية وأغنية المهرجان. كما شارك في مهرجان صفاقص في تونس عاصمة الثقافة العربية 2016، وكرم هناك.
– شارك كعضو لجنة تحكيم في مهرجان الأغنية السورية لأكثر من دورة.
– كُرّم من وزارة الثقافة لمساهماته في الحفاظ على التراث اللا مادي، كذلك كرمته هيئة الإذاعة والتلفزيون، واتحاد الصحفيين العرب في أميركا في لوس أنجلوس عندما أقام فيها أمسية شعرية. وكرمته الرابطة اللبنانية للأدباء.
– عضو لجنة الاستماع في الإذاعة السورية.
– نال العديد من الجوائز منها جائزة «أورنينا» لأربع دورات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن