قضايا وآراء

القضية الأقدس في المزاد

| يوسف جاد الحق

ظاهرة معروفة في الولايات المتحدة، في مواسم الانتخابات الأميركية، هي أن البند الأول والأهم في برامج الساسة المتقدمين للترشيح على منصب الرئاسة ودخول البيت الأبيض لتحقيق حلمهم الأكبر، هو الموقف من الكيان الصهيوني، وما من سياسي أميركي، أقدم على ذلك، منذ قيام هذا الكيان عام 1948 على أرضنا إلا وأعلن مناصرته ودعمه لذلك الكيان بلا حدود، واعتبار أمنه من أمن الولايات المتحدة نفسها، فضلاً عن التعهد بجعله الأقوى تسليحاً وجيشاً في المنطقة، سواء من حيث الكم أم النوع، ومن الدول العربية مجتمعة، هذا قبل أن يصبح بعض أولئك العرب محايدين فجنحوا إلى تسميته «النزاع» العربي الإسرائيلي تخفيفاً لوقع ما حدث، وتنصلاً من المسؤولية القومية تجاه القضية العربية الأولى والأقدس، وبعض تجرأ أكثر فمضى إلى التحالف مع العدو سرّاً، على فلسطين وشعبها وجبهة المقاومة التي أخذت على نفسها العهد بالعمل على تحرير فلسطين بكاملها طال الزمان أم قصر.
كان هذا حال رؤساء أميركا منذ قيام «إسرائيل»، على التوالي بدءاً بالرئيس هاري ترومان الضالع في مشروع التقسيم عام 1947، الذي بادر إلى الاعتراف بها بعد خمس دقائق من إعلان عصاباتها عنها «كدولة»، ثم تلاه بعد ذلك في الموقف السلبي من القضية الفلسطينية الداعم للعدو على ظلمه واغتصابه سائر رؤساء أميركا حتى يومنا هذا الذي تُوِّج بمجيء دونالد ترامب الصهيوني أكثر من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وعصابته أنفسهم.
في الواقع هي ظاهرة تمييز عنصري عدواني موجه إلى فلسطين وشعبها ظلماً وإجراماً من جهة، ونفاقاً رخيصاً للصهاينة من جهة ثانية، من أجل كسب أصوات ممثليهم هناك، من «الإيباك» إلى جمعياتهم المعروفة كالماسونية، وبني بريث، واللوثري والليونز، ولم يشذ واحد منهم عن هذه القاعدة، كما لم يتأخر أي منهم عن الادعاء بأنه، وبلاده أيضاً، نصير لحرية الشعوب في تقرير مصائرها، وعن الزعم بالدفاع عن «حقوق الإنسان» في أي مكان من العالم! ولكن يبدو أنهم إما يستثنون الفلسطيني المغتصبة أرضه من الصهاينة وكأنه ليس من بني الإنسان، وإما أن فلسطين ليست من هذا العالم، ومن ثم ألغي اسمها عندهم وحل مكانه اسم «إسرائيل وشعبها المختار»، فقضيتنا حالة استثنائية، وإسرائيل فوق القوانين والشرائع السماوية والأرضية!
اليوم تتوسع هذه المسألة وتذهب إلى آفاق أبعد مدى، فها هي المزاودة تجري ليس بين متنافسين على الرئاسة كالعادة ولكن بين الرئيس الحالي ونائبه نفسه!
مارك بنس يزاود على رئيسه في نفاقه للصهاينة فهو أولاً يعلن، لكي يسعد نتنياهو بالخبر، بأن السفارة الأميركية سوف تنقل إلى القدس في العام القادم، وليس بعد أربع سنوات، كما أعلن رئيسه ترامب نفسه، وها هو ثانياً يعمد إلى تزوير التاريخ فيتحدث إلى أعضاء الكنيست عن وجود لليهود في فلسطين، الممتدة جذوره إلى ما قبل التاريخ، وأن هذه الأرض كانت لهم على امتداد الزمن، الأمر الذي لم يحتمل سماعه الأعضاء العرب في الكنيست فثاروا في وجهه مجتمعين معلنين اعتراضهم وسخطهم، فقامت معركة بالأيدي مع الأمن الإسرائيلي وأعضاء الكنيست اليهود أمام عينيه، على حين العالم كله يشهد ما يجري في «واحة الديمقراطية الوحيدة» في المنطقة، ولم ينس الرجل زيارة «حائط البراق» كما لم ينس مباركة وتأييد إقامة المزيد من المستوطنات في الضفة وغيرها من أرض فلسطين.
الرجل يسعى منذ الآن إذاً إلى حجز مكانه في البيت الأبيض، عند نهاية الدورة الأولى لترامب، وربما قبلها إذا ما أنهى الصهاينة، كما سبق أن قلنا في مقال سابق، فترة رئاسة هذا الأخير قبل الأوان، استعجالاً لما يريدون تحقيقه على يد السيد بنس، وبعد أن استنفد ترامب أغراضه، بتقديمه القدس هدية لهم، كعاصمة أبدية، على حساب الشعب الفلسطيني والعرب جميعاً، بل مسلمي العالم أيضاً من غير العرب، وحتى مسيحيي العالم أنفسهم، أن في القدس وما حولها من الكنائس المسيحية، المهد والقيامة وغيرهما، ويقدم بنس على ذلك عن إيمان أيديولوجي بتعاليم الإنجليكان من المسيحيين في أميركا، التي تقول إن احتلال اليهود لفلسطين وتجمعهم فيها إنما هو توطئة لنزول السيد المسيح إلى الأرض، وقيام حرب كونية تدعى «هرمجدون» في فلسطين، واليهود يقصدون مسيحهم، وليس السيد المسيح بن مريم، فهم لا يعترفون به أصلاً، لكنهم لا يعلنون ذلك على الملأ، بل يحيطونه بالكتمان، كي لا ينفض عنهم الإنجيليون المخدوعون بجهلهم حقيقة نيات الصهاينة في هذه المسألة.
مارك بنس لم يدن الاستيطان، بل أقرهم عليه. كما أنه لم يتحدث، ولو بالإشارة، إلى حقوق للفلسطينيين في أرضهم، سواء المقيمون عليها أم عن حق عودة لمن هم في الشتات بعيداً عنها، ومن ثم فما الذي بقي للفلسطينيين لكي ينصتوا إلى دعوته إياهم للتفاوض «من أجل السلام»؟ كما تقول حنان عشراوي، فكأن الرجل يدعوهم في الحقيقة إلى التسليم النهائي بالتخلي عن فلسطين للصهاينة، وجوداً دائماً معترفاً به منهم أيضاً على أرضهم وأمام المحافل الدولية لتشريع ما استولى عليه القراصنة.
إزاء هذه الوقائع المتسارعة في سباق «المزاد العلني» بين الساسة الأميركيين، موضوعه فلسطين أرضاً وشعباً، ما هو الرد المنتظر من «السلطة» وجماعة «أوسلو» الذين لا يكفون عن الحديث عن «مفاوضات» وعن «سلام» مع من يسمونه «بالجار» الإسرائيلي؟
وبعد، أين هو الرد الحقيقي على كل هذا، وكأن الأمر بعد أن بلغت الأمور هذه الحدود، لا يستحق انفجار البركان وقيام انتفاضة عارمة، لا تبقي ولا تذر، وتعيد الحق إلى أهله، منهية بذلك هذه المهازل الجارية كلها، بما في ذلك اتفاقيات العار والمهانة والاستسلام، لإفساح الطريق للزحف المقدس لإعادة الحق إلى نصابه والوطن إلى أصحابه؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن