ثقافة وفن

عطر الغد القادم

| إسماعيل مروة 

أمتشق نور عينيها وأمشي
أسكن مساماتها وأركن للأبد
أدلف إلى مغاورها وفي رحلة الأمان أخلد
أتشبث بكل شيء لعلي فيها أحيا
في زواريبها مساحات ممتدة للأبد
في أزقتها الخلفية نور لا تعرفه الشمس
على نور قدميها أسجد والمحال هي
أريدها تمسّد رأسي المرهق على أرصفتها
وأشرع في نهل قداسة أصابع قدميها
أيا أم التجذر والافتداء.. يا نجم السماء
أتماهى في قبابها التي لا تدانى
أتعشق زواياها التي يجهلها الغزاة
وحين تمطر الدنيا تجود بمائها
وينسرب ريقها المقدس ليسقي ما بي
ليروي عطشي إلى كل شيء فيها أعرفه
تريد أن تعطي نهلة.. نهلة واحدة وحسب
وأريد كل الماء.. كله ولا ينقص
ويهزّ الوليد رأسه نشوة
تعابثه أمه طويلاً لتداري غصتها
تمسح ماءها بيدها تارة
بمنديل يلوح بالأخرى
والوليد ينفر.. يتشبث بالماء والثلج
يريد الماء من شام
ماؤها زلال لا مثيل له
هي أرض وخصب.. لا خصب به
هي سماء وعطاء.. لا جود يدانيه
من خصبها يصعد الماء
يقدّس السماء ويعود
يعود لعابد
يهطل لوليد
يخرج الوليد يديه من اللفّة التي تأسره
ويعابث كل مسام من شام الممتدة
يمسح جرحها النازف
يحتوي لوعتها
فهذا شرب ومجّ ما شرب من تخمة
وذاك سرق وأخفى ما سرقه تحت حجر
وأول امتلك بيتاً
وأوصد بمفتاحه
وهي تلوب عن وليدها
تعطي شام.. دوماً تعطي ولا تعرف بخلاً
يعهر اللص ولا يرتوي
يحمل اللص صرّته ويرحل
يجمع ما بإمكانه من حليبها ويمضي
كانت نيزكاً سطع واختفى
كلهم لم يدركوا حقيقة النيزك
وهي لم تدرِ جوهرها
اختفت لكنها كانت
تحققت
سطعت
ستصدر ذات دهشة
ستحرقهم.. نعم ستحرقهم ذات صباح مثلج
لن تبقي من اللصوص لصاً
كل اللصوص سيرحلون
إنها شام.. تملك مفاتيح القدر بيديها
وهل مثل شام؟!
بسمتها غيمة لا تمل التهطال
غضبها إعصار لا يصله غضب
ضمتها لا حدود لها حين تحنو
وحين يحين الوقت.. الوقت الذي تحدده هي
هناك على رصيف عهر تترك اللص
اللص الذي سرق غصتها ذات لحظة
اللص الذي باع أسنانها الغالية
استلّ اسنانها
باعها في سوق الحرامية
والعابد يمتشق نور العين
ومن قطرات تنفرج عنها المسامات
يحمل زاده ويمضي
غذاء لا ينتهي.. يكفي ألف عام
يلوذ بمغاورها من هضبة إلى قمة جبل
فثمة أمان لا يغادرها
وإن قالت فإنها لا تبيع من يبيع
فما فيها أقدس من أن يعرض للبيع
كما اللص مستعار
كذلك أسنانها الذهبية مستعارة
تغطي كنه شام
وتخفي طهرها المطري
وتضنّ بنقي ثلجها
الثلج لتطهير روح
لسمو نفس تائقة للسمو
لقداسة لحظة ارتعاش لا يعرفها سواها
لطهر رمشة لم أشهدها
في كل لحظة شام طهر
في كل رمشة هي العبادة
وعند كل مفترق أقول:
هذه اللحظة أقدس
لأعرف أن اللحظة الأطهر لم تأت
غداً تولد الحكاية مع شام
وفي كل غد دهشة التماهي
مع شاماتها التي أدلف معها
من قمة قاسيون
إلى صدر الرحمة
إلى أزقة لم يمرّ بها أحد
لم تحتفظ بعلامات الغزاة
يمرّ الغزاة فيها ويرحلون
وتبقى شام شامة الطهر
الطهر الساكن في أعماق روح
في دهشة يترقبها العابد
هناك في قبة السماء ثمة ما يدهش
وشام كتاب لا تتعاوره الأيدي
يبقى محتفظاً بعبق الحرف
ورائحة الطهر الأنيق
في أيقونة يسوع
في سماحة محمد
في أغنيات حزن زينب
في كل ما تحتضنه ولا يكون بسواها
تمتد شام
وينتشر العبق الآسر
وتهمي مع ندى الصباح
على روح عطشى
ولروح ثكلى
لتصنع أغنية الفرح
وتنتصر لبقاء أزلي مختلف
تنفث عطرها المُسكر في الأرجاء
تتلاشى الأفاعي السامة
وتهرب السموم من الأزقة
لتبقى هي عمود نور ينتصب في المعبد
وهي وحدها
سيدة الغد القادم
والمعبد المقدس شام

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن