ثقافة وفن

شمسي.. لوعة الغياب.. وإلى أم وشهيد

| إسماعيل مروة

شمسي.. أيها الصديق العزيز الراقد في ملكوت أبديتك التي اختارتك واخترتها، اخترتها لتودع الدنيا واقفاً تسعى إلى الحب والود، مواعيدك ضربتها مع أحبتك، وبدأت الجولة لتختمها في «الوطن» التي أحببتها وأحبتك، وعند أصدقائك الذين محضوك الودّ والحب لعقد من الزمن الجميل في رحاب صحيفة ووطن، دوماً تختم جولاتك في «الوطن» فمن صديق إلى صديق وصوتك يصدح في جنبات المكان.
شمسي… كم كنت طيباً وودوداً ومحباً ومنتمياً.. دمشق عاصمة الثقافة العربية على يديك انتشت بملحق لم يجد بمثله وقت العاصمة، فطوّبتها بحب لا مثيل له.. وحين غادرت الشام بقيت معلقاً بها… ومن هناك، من أثينا أرسلت للشام ترنيمات عشق، تقتفي فيها أثر نزار الشام وحبيبها، ولأنك ابن الشام الذي ينتمي إليها شرّحت ودرست واجتهدت وجرأتك وصلت مدى بعيداً وأنت تتحدث عنها… عن شرائعها، عن أقلامها، عن دينها المحب، عن أعلامها، عن صحفييها.. وفي كل يوم كان شمس الدين العجلاني يخرج علينا بجديد، فهذه صورة نادرة، وهذه وثيقة، وهذه مادة، وكلها لشمس الذي أخلص عمله لنبش كل الزوايا المضيئة والمضيئة من الشام، وكل ما في الشام مضيء.

كلما أصدر شمس الدين العجلاني كتاباً كانت «الوطن» محطته الأولى في كل شيء، ولا أدري سرّ هذا الود الجميل الذي ربطني بشمس والسيدة المهندسة هدى الحمصي، فما من حفل توقيع لكتاب من كتبه، وما من ندوة خاصة به إلا وكان اختياره الذي أشرف به أن أكون المتحدث، وكم كنت أعيا عن الحديث في حضرة حبه.
يوم الإثنين هو يوم شمس الدين العجلاني في الصفحة الحادية عشرة في «الوطن» يتأنق في مادته وصوره، وحين يحدث خطأ ما يحدثني معاتباً بعد منتصف الليل، وحين ينهي حديثه، ويفرغ عتبه أقول له: يا شمس آسف، سنتدارك الأمر في المرة القادمة… يضحك بطيبته ويقول: ما بعرف.. ما بعرف.. أمر غداً لنشرب القهوة بعد الواحدة.. وكثيراً ما يسأل: الأستاذ وضاح موجود؟ فإن كان موجوداً يرتب قدومه في موعد يمكنه من لقاء الأستاذ وأصحابه كافة.
أبو ثائر صديق عتيق لم يتخلف عن موعد أو واجب، وحين علمت باستشهاد ابنه ثائر اتصلت به، وكانت لحظة لا تنسى من الحزن ومن التباهي بأنه أبو الشهيد، أبو ثائر.. وكان استشهاد ثائر محطة لا يمكن تجاوزها عند أبي ثائر والسيدة أم ثائر.. لكنهما أخذاه من تربة الأرض وزعاه في قلب ودمعة حارقة في كل لحظة.
أبو ثائر كان محباً ويثق بأحبابه، وفي ذكرى استشهاد الغالي ثائر زرع الأستاذ وضاح عبد ربه رئيس التحرير وردة لا تذبل على ضريحه حين أصدرت «الوطن» كتاب شمس الأخير صدوراً «شوام شيوخ الصحافة» جلس على إخراجه وصوره، وكان لا يجزم بأمر إلا بعد أن يستشير أحبابه وأصدقاءه.
شمس أيها الصديق الأنيق سنشتاقك، بأناقتك، بالمنديل على جيب سترتك، بحضورك إلى الموعد قبل أن يصل أحد، ببشاشتك، بالود الذي افتقدناه، بأسئلتك العجلى… بدمعتك السخية عندما تخجل، أو عندما يمر اسم ثائر على سمعك أو في هواء الشام.
شمس أيها الصديق الكريم الجواد، وهل أنسى جلسات كانت في منزلك، وسيدة الذوق تطوق البيت بشمع وعطر وصور لا تذهب من الخاطر؟
عن أي شيء أتحدث يا شمس…؟
بقي أن أقول: إن شمس لم يطلب وداً من أحد، بل كان سباقاً إلى الود، فإن جاءه الود كان رداً لما تفضل به هو، وأنا بين من ردوا جزءاً من ودّه ولهفته، وهذا الود بقي إلى آخر لقاء عام في توقيع «سر الأسرار».
منذ يومين تحدثنا طويلاً حول مقالاته وأثرها، وأرسل مقالة جميلة عن المهندس الإسباني الذي بنى كنوز دمشق المعمارية، وصادف أن ينشر هذا الموضوع الأخير يوم رحيله بالضبط، فكم يا شمس من قارئ كان يقرأ حروفك، ويعجب بكلماتك، ويتلهف إلى لقائك، بينما كنت أنت تبدأ رحلة الأبد كما أردتها وأرادتك!
شمس.. لن أدّعي شيئاً بعد رحيلك… لكنك يا أبا ثائر والسيدة أم ثائر في المكانة المرموقة… وعلى كل منبر سأرقب الصف الأول حيث أنت لن تبرح المكان، والسيدة أم ثائر تعيش الوفاء لمن أحبتهم وأحبوها… كم من مرة غمرتماني بإطلالتكما حيث تخلف من لم أتوقع؟
شمس.. سأحافظ على اسمك ورقمك.
ستبقى عذوبتك في كل حرف كتبته…
أما شمسي… فأنا لم أخطئ بها.. بل سمعت السيدة أم ثائر تذكره مرة، فسألته عن شمسي، فقال وبصدق: أمي لم تكن تطلبني إلا باسم شمسي، وهذا اسمي عندها وعند أم ثائر.. وها أنت يا صديقي تغادر أم ثائر مكلومة مفجوعة لفراق الزوج والصديق والحبيب، لتعود إلى أم شمس وثائر… يبدو أن كبدك الحرّى اشتاقت لأم شمسي، وقلبك تفطر على ثائر الشهيد، فآثرت غمامة من حب دمشقي لتخلد هناك في رحلة الأبد.. وداعاً أبا ثائر.

وداعاً أيها الصديق
أغمضت عينيك ولم تشهد، لكنك تعرف كم دمعت لأجللك أعين، وكم هزّ نبأ رحيلك من أحباب..!
«ليت رأسي ما سلم»
كذلك قالت عندما حدثتها، ولكنها أم.. وأم ثائر
والأم تحتضن الألم والحزن لتخرج أمومة تغطي الكون..
السيدة أم ثائر…
ها أنت تستقبلين الألم، فمن شهيد إلى زوج وصديق
رحلة من ألم فراق لم تكن لتحتمل لولا الهدى…
وداعاً أيها الصديق النبيل.
سيشتاقك أصدقاؤك، وستفتقدك صحيفتك «الوطن»، وصفحتك الأغلى بك… وسيسأل عنك قراؤك ومحبوك… وسيستمطرون السماء رحمات لك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن