ثقافة وفن

«المولوية» رقصة العشق الإلهي … تتجاوز حدود الطائفية ويكون الحب هو الدين الوحيد

| فادي نصّار

خرج الشاعر والعالم المتصوف الذي أدهش، ولايزال، العالم بأشعاره، لصلاة الفجر، فرأى الورد وزهر الربيع تغمره الندى، فأيقن المعنى الحقيقي للجمال والنقاء، ولدى سماعه غناء الطيور، فتح قلبه للدنيا وبدأ يدور، مردداً: «المجرات تدور، الكواكب تدور، والدورة الدموية في الجسم تدور، الحجاج حول الكعبة يدورون، وقطرات الماء من البحار إلى السماء فالأرض عائدة إلى البحار، كلها تدور».
لم يتوقف دورانه، ورقصة العشق الإلهي الأولى مستمرة إلى يومنا هذا، فمنذ بدأها في مدينة قونية التركية، في القرن الثالث عشر الميلادي، امتدت دورات العشق الإلهي بسرعة عبر كل الذين يعتبرون أن الحب الأسمى والأنقى والأعمق هو حب اللـه فمن حلب إلى دمشق، حماة، حمص، اللاذقية، طرابلس، القاهرة، القدس، حتى قبرص والبوسنة.
الشاعر الشيخ، الذي كان تصوّفه مزيجاً من الروحانيَّة والحِكمة، غاص في أعماق الإنسان. ففاضت أشعاره في كل المعمورة حُبّاً وحِكمةً، ليبلغ أرقى درجات العبقريَّة الشعريَّة.
من عقله وقلبه، بزغت شمس موسيقا نايٍ ساحرةٍ، وانسجمت معها رقصة «المولوية» التي سبت العقول على مدى سبعة قرون متواصلة ولا تزال، فعلماء الموسيقا يعتبرون أن الطريقة «المَولوية» الصوفية، هي المؤسس والمسؤول الأول عن ظهور واستمرار الموسيقا الدينية الصوفية.

مؤسس «دين الحب»
دعيت بـ«المولوية» نسبة إلى الشاعر الشيخ والعالم، مولانا (كما يسميه اتباع الطريقة) جلال الدين الرومي (ولد سنة 1207 ميلادية). الذي تتلمذ على يد العلامة شمس الدين التبريزي الذي دربه على أصول التوحيد مع الاحتفاظ بالثقافة الشرعية، وحول مساره من علم القال إلى علم الحال والخلوة والذكر.
كان الرومي مسلماً ملتزماً طوال حياته، يصلي الصلوات الخمس ويصوم الفرائض، ولكنه في نهاية حياته كتب عن «دين الحب» الذي يتجاوز كل حواجز الطائفية التقليدية، فكتب ما يزيد على ثلاثة آلاف قصيدة غزل ومقاطع غنائية، معظمها قصائد مقفاة عن الحب، وأكثر من ألفي رباعية (أربعة أبيات موحدة القافية). كما كتب ملحمة روحية في ستة مجلدات عنوانها «المثنوي» وفيها قال الرومي إن « دين الحب يتجاوز كل الأديان، الدين الوحيد للمحبين هو الله».
يربط البعض الطريقة «المولوية» بمفهوم دوران الكواكب حول الشمس، حركة الكون التي تبدأ من نقطة وتنتهي عند النقطة ذاتها، وأن الحركة لذلك تكون دائرية، بينما يعتبرها أخرون صلة الوصل بين العبد وخالقه، لأن الراقصين الدراويش فيها يقومون برفع يدهم اليمنى وخفض اليسرى إلى الأسفل، وهذه الحركة ما هي إلا نوع من المناجاة للخالق.
وتقوم الطريقة «المولوية» على عناصر ثلاثة أساسية هي: الموسيقي، الرّقص وإنشاد الشعر، وحصراً شعر مؤسّسها جلال الدين، وهو القائل: «هناك طرق عديدة تؤدّي إلى الله، وأنا اخترت طريق الرقّص والموسيقا».
لخص «الرومي» عظمة الموسيقا بقوله: «في توقيعات الموسيقي يختبئ سرّ لو كشفت عنه لتزعزع العالم». فالموسيقا، إحدى الركائز الأساسية في المولوية، وتسمى «السمع» ويعتبرها مُريدو «المولوية»، رحلة روحية تسمو فيها النفس إلى أعماق العقل والحب وطريقاً للوصول إلى الكمال.
مُريدو «المولوية» عموماً يلقبون بـ«أهل الله»، أما الراقصون الذين يدورون خلال الرقصة حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ، فيسمون «الدراويش»، وتعني الفقراء المنتمين لله بأقل الحاجات المعيشية. ويعتقد هؤلاء أنه من خلال اندماجهم مع الموسيقا والدوران حول المركز، نفوسهم ترقى إلى مرتبة الصفاء الروحى وأنهم يتخلصون من المشاعر النفسانية، فينمو فيهم الحب، ويتخلون عن أنانيتهم، فهم يستغرقون في وجد كامل يبعدهم عن العالم المادي ويأخذهم إلى ملامسة الوجود الإلهي.
وتعتمد الموسيقا لدى المولويين على أنغام الناي، لأنه كان يعد أحد وسائل الجذب الإلهي، كما أنه أكثر الآلات الموسيقية ارتباطاً بعازفه، لأن أنينه يشبه أنين الإنسان، وحنينه إلى الرجوع إلى أصله السماوي في عالم الأزل.
يحضر الناس من كل الأجناس والأديان، جلسات المولوية، ويلقى الجميع تسامحاً ملحوظاً من المولويين، كيف لا، وفي جنازة مولاهم الشيخ المتصوف «جلال الدين»، تلا حاخامات اليهود مزاميرهم، ورتل قساوسة وكهنة مسيحيون آيات من الأناجيل الأربعة.

الملابس
تتسم ملابس الدرويش بأنها واسعة وبسيطة، وتعتمد بشكل رئيسي على الصوف، وهي ألبسة (كهنوتية)، فقبلهم كان كهنة الفراعنة، والنساك في الديانة المسيحية واليهودية، يكتفون بارتداء عباءة يحيكونها بأنفسهم من صوف الغنم أو الماعز، ويدل هذا النوع من الملابس على أن النفس البشرية فانية، كما يدل على التقرب من اللـه تذللاً، فلباسهم يتألف من عباءة (جبة) سوداء ترمز إلى القبر( في رمزية إلى قبر النفس الأمارة بالسوء)، غالباً ما تكون مفتوحة من الأمام ذات رقبة مستديرة واسعة، بأكمام طويلة واسعة أيضاً، تتدلى جوانبها الأمامية كالعباءة، تحتها يرتدون «الجلباب» أو تنورة بيضاء فضفاضة «الكفن» في دلالة إلى الموت أو الفناء، وغالباً ما تكون القبعة بنية اللون، عالية، تسمى «الكلّة» وتمثل شاهدة القبر.
أما حفل السماع فيجري على النحو التالي:
يدخل الرّاقصون إلى الحلبة، واضعين أذرعهم على الصدر بشكل متعارض وبذلك يشهدون بوحدانيّة الخالق عزّ وجل ويمثل الرقم (1)، وبعدهم يدخل الشيخ الذي يمثّل الوسيط بين الأرض والسماء، فيحَييّ ويجلس على سجادة حمراء يذكّرهم لونها بغروب الشمس عن مدينة قونية يوم وفاة مولاهم. ويبدأ المغنون في ترديد مدائح وأبيات منتقاة من أشعار جلال الدين الرومي. عندها يتقدّم الدراويش ببطء، وفور مباشرتهم الدوران يفتحون أذرعهم متضرعين إلى الله.
يدورون من اليسار إلى اليمين، ثلاث دورات حول السجادة الحمراء ويرمز عدد الدورات هنا، إلى المراحل الثلاث التي تقرّب الراقص من اللـه وهي: طريق العلم، وطريق الرّؤية أي علم الباطن، وطريق المعرفة الحقيقيّة والاتحاد مع الله.
في نهاية الدورة الثالثة يخلع الدراويش جلبابهم الأسود، فيظهر لباسهم الأبيض في دلالة على تحرّرهم من الجسد المادي من أجل ولادة جديدة، في تلك اللحظة يشير إليهم الشيخ، بالرقّص فيبدؤون بالدوران ببطء، مادين أذرعهم كجناحين أحدهما سماوي والآخر أرضي: فتتوجه اليد اليمنى وكفها إلى السماء، أما اليسرى وكفها فيتوجهان إلى الأرض. وترمز هذه الحركة إلى أن الدرويش يتحول برقصته تلك إلى صلة وصل بين الخالق وعبده، كناية عن أنه يتلقّى الطاقة الحيوية من السماء ليمنحها إلى الأرض، في عملية كيميائيّة يملك وحده أسرارها.
وعندما يبدأ الدراويش دورتهم الثالثة يدخل الشيخ الحلقة لأداء رقصته، فيتسارع إيقاع الآلات، ومعها يبدأ الشيخ بالدوران في مركز الدائرة فيكون بمنزلة الشمس لباقي الكواكب، وتعد هذه اللحظة، لحظة التحقق القصوى والاتحاد مع المطلق. وعندما ينتهي الشيخ من الرقص ويعود إلى مكانه تتوقف الآلات عن العزف ويباشر المنشدون في تجويد القرآن إيذاناً باختتام مجلس السماع. يعتبر هذا النوع من الرقص بمنزلة تحرير للجسد وانفلات من قيود المادة بحيث يصبح الرّاقص، عندما يدور حول نفسه، محور العالم، ومن خلاله تلتقي الأرض بالسماء.

الإنشاد
يبدأ الإنشاد المرافق للمولوية بنشيد (يا إمام الرسل ياسندي/ أنت باب اللـه معتمدي/ وبدنيايَّ وآخرتي/ يا إمام الرسل خذ بيدي). فيقوم المنشدون بترديد عبارة (مدد مدد يارسول الله/ مدد مدد ياحبيب الله..) وتتزايد سرعة الدراويش في الدوران بشكل لافت للنظر حتى تصل إلى الذروة مع ترديد المنشدين لعبارة (يارسول اللـه مدد/ ياحبيب اللـه مدد) بينما يتخللها صوت من بعيد لرئيس الزاوية يردد كلمة (حي، حي) وتختم الرقصة بترديد عبارة (الله الله.. اللـه الله.. اللـه الله يا الله)‏‏ عدة مرات قبل أن تختم وصلة الدوران.

من قونية إلى حلب
على الرغم من أن مدينة قونية في تركية كانت المقّر الأول للطريقة المولوية، ومنها انبثقت التكايا (الزوايا) التي هي فروع للمركز. إلا أن الرومي، درس الفقهَ والحديث وغيرهما من العلوم الإسلامية في المدرسة الحلوية في حلب، وتعلم كذلك الشعر العربي فيها، فتركت حلب في قلبه وجداً لم ينته حتى موته، على حين ترك في أهل حلب نفحة من ناياتِ العشقِ الالهي، فاشتهرت المولوية في مدينة حلب وكان لها جوامع وزوايا منها جامع المولوية في باب الفرج بحلب، كما تحولت المولوية إلى فقرة فنية مستقلة تقدمها الفرق الفنية، منها فرقة أمية للفنون الشعبية وفرقة الحاج صبري مدلل، ومن في سورية لم يطرب لصوت صبري المدلل؟
أما في دمشق، التي زارها جلال الدين الرومي، ومكث في المدرسة المقدسية، فالتقى بشيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي (560- 638هـ)، قام الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي، الذي تخرج في الطرق الصوفية، بإخراج الإنشاد، من الزوايا ليجعله فناً مستقلاً. حيث أبدع الكثير من الموشحات الدينية الجميلة، نذكر منها موشح يقول: يا جمال الوجود/ طاب فيك الشهود/ والبرايا رقود /إن عيني تراك/ ما لقلبي سواك، وضع تقاليد الجامع الأموي بدمشق مثل الصمدية الشريفة التي تفصل بين الأذان الأول والثاني عند صلاة الجمعة، وهو واضع التسابيح والتراحيم التي تسبق أذان الفجر.
بعد أن دار الشاعر الصوفيّ أولى دوراته، تحت أشعة الشمس، غاص أهل حلب في الموسيقا فسبروا، في أعماق النَفْس البَشَريَّة، وألهب قلوب العشّاق، كما ألهبها «الرومي»، في رحلة عشقه لخالق الكون، موحياً للبشرية برقصة «المولوية» الصوفية، الجميلة، الرزينة، الفاتنة، بأن في الموسيقا أسراراً لو كشفت لتزعزعت أركان الكون، وأن العشق الإلهيّ هو أساس التصوّف، وبه يبلغ المتصوّف درجات الكمال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن