قضايا وآراء

إسرائيل تحترق في الجليل

| عبد المنعم علي عيسى

أن تسارع تل أبيب إلى فتح قنواتها الساخنة، وكذا الباردة والفاترة، مع كل من موسكو وواشنطن بعيد إسقاط طائرة إف 16 فخر الصناعة الأميركية ورمز زهوتها، يوم السبت الماضي طالبة المساعدة في احتواء الموقف، فذاك أمر له العديد من المدلولات بعضها من النوع الذي لا يتضح إلا بالتحليل، وإذا ما حاولنا أن نفعل سنرى أن السلوك الإسرائيلي الذي ترافق مع الحدث كان يشير إلى اعتراف صارخ بارتكاب القيادة الإسرائيلية لخطأ إستراتيجي فادح وهو يتعلق بقراءة ردة الفعل السورية المحتملة تجاه مسلسل الضربات التي ما انفك ينفذها سلاح الجو الإسرائيلي والتي تطورت لاحقا إلى استهداف العمق السوري عبر صواريخ أرض أرض.
كانت القراءة التي تتبناها تل أبيب هي أن دمشق لن يكون بوسعها إلا ممارسة «صبر أيوب» إلى ما لا نهاية، في ظل داخل سوري بات متخما بكل أنواع الصراع، وهي لا بد لها أن تصم أذنيها في مواجهة نداء الشارع المطالب برد يرى أنه قد تأخر، لأنها خير من يدرك، أي دمشق، خطورة الانجرار وراء خطاب الشارع على عواهنه والتجارب على هكذا سياقات كانت كارثية.
على مدى العامين الماضيين سعت تل أبيب إلى فرض قواعد اشتباك جديدة مع دمشق وكان الظن مؤخراً أنها سوف تعمل على انسحاب تلك القواعد على الجبهة مع لبنان أو حزب اللـه، ولذا فإن استباقية الرد السوري جاءت لتقلب الحسابات رأسا على عقب، وإذا بالصاروخ الذي اخترق جسد الطائرة الإسرائيلية يخترق معها أيضاً جسد الأماني والأحلام، ويعيد القوة الإسرائيلية إلى حجمها الطبيعي الذي أوهمت نفسها بإمكان القفز فوقه انطلاقا من تتالي الانهيارات المتسارع في المنطقة، لكن الذي حدث كان هو العكس وربما كان من أهم تداعياته هو نفض الغبار عن توصيف «بيت العنكبوت» الذي أطلقه عليها أمين عام حزب اللـه السيد حسن نصر الله.
كانت الروائح التي نتجت عن إسقاط الطائرة تحمل في طياتها «عطر» الراحل الزعيم السوفييتي يوري اندروبوف الذي أراد تدعيم القوة السورية ففتح أمامها ترسانة بلاده للأسلحة النوعية فكان منها هذا الصاروخ سام 5 الذي حصلت عليه دمشق في العام 1984 ولم يكن قد خرج في حينها من الاتحاد السوفييتي إلى أي بلد في العالم.
الحدث كبير وهو بحجم انتصار حتى أنه طغى على مرفقاته، فلم يأت أحد على ذكر الجغرافيا التي أسقطت الطائرة فيها وهي تبعد 70 كم عن الحدود مع سورية وللأمر أهميته، بل على العكس عملت وسائل الإعلام الإسرائيلية وكذا الغربية في المجمل على تسليط أضوائها على إسقاط الدفاعات الإسرائيلية لطائرة بلا طيار قالت إنها إيرانية وقد أطلقت من الأراضي السورية حتى إن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي افيخاي أدرعي كان قد قال إن سلاح الجو الإسرائيلي قام باستهداف «ممتاز» للطائرة الإيرانية وكأن هناك استهدافاً ممتازاً وآخر غير ممتاز، وكانت الجهود تنصب على شحذ الهمم ورفع المعنويات، لأن الشارع الإسرائيلي يدرك بحدسه أن تقليم اذرع التمدد الجوية للكيان الذي يعيش فيه، هو أمر في غاية الخطورة وهو يهدد نموذج القوة السوبر التي استطاعت أن تضرب مفاعل تموز العراقي بالقرب من بغداد حزيران 1981 ومقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس 1985 وقبلهما عملية مطار عنتيبي التي استدعى القيام بها تحليقا للطائرات لمسافة تزيد على أربعة آلاف كيلو متر في العام 1976.
من المؤكد أن مناخات التصعيد التي شهدتها المنطقة مؤخراً بدءا من استهداف الطيران الأميركي لفصائل حليفة للجيش السوري في دير الزور، ومرورا بالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وصولا إلى إشاعة مناخات «كيميائي الغوطة» آب 2013 التي استطاعت واشنطن من خلالها حرمان دمشق من سلاح رادع قوي بوجه التهديد النووي الإسرائيلي، الأمر الذي يطرح تساؤلا عريضا هو ما الذي تريده واشنطن اليوم من إشاعة تلك المناخات؟
المؤكد أن هذه المناخات الأخيرة قد دفعت باتجاه هكذا تطور خطير سيكون له الكثير من التأثيرات في طريقة التعاطي الإسرائيلية اتجاه ما تسميه تموضعاً لإيران بالقرب من حدودها ولسوف يكون لزاما على تل أبيب أن تعد إلى المئة قبيل أن تفكر في القيام بعمليات من هذا النوع.
كان لسان حال صحيفة «يديعوت احرونوت» الإسرائيلية القريبة من دوائر القرار في تل أبيب التي خرجت بعد ساعات من تلك الحادثة لتقول: إن الرد كان سورياً، وليس روسيا، فطائرتنا أسقطتها الدفاعات السورية ولم تسقطها منظومة إس إس 400 الروسية، كانت الصحيفة تريد أن تقول إن الخيارات الإسرائيلية في سورية تضيق، واللعب بالنار لا بد وأن يصيب القائم بالفعل بـ«طرطوشة» منها فكيف والحال الإسرائيلية لا تكاد تحتمل أصغر واحدة مما تبعثره تلك النار، وإسرائيل لديها الكثير مما يمكن لها أن تخسره وفي الذروة منه زعزعة الثقة بقوة الردع الإسرائيلية سواء أكان من قبل الشارع الإسرائيلي وتداعيات ذلك على التركيبة المجتمعية العسكرية الفريدة في العالم، فالنمو والتطور في المجتمع لا يحدث إلا بفعل تأثير القوة العسكرية التي أضحت حاضنة للمجتمع لا العكس، أم كان ذلك من قبل الخارج الغربي وتحديدا الخارج الأميركي فتل أبيب سبق لها أن عجزت عن انجاز المهام الموكلة إليها على ما يزيد من عقد ونصف وأهمها عملية «شق البطن» لإخراج جنين الشرق الأوسط الجديد الذي ارتأت واشنطن أنه كان قد أتم أسابيعه الستة والثلاثين في العام 2006 فأوعزت لتل أبيب أن تفعل لكن الأخيرة أثبتت عجزاً كان له أثر كبير في تركيب الصورة الإسرائيلية الجديدة بأعين الغرب والأميركيين، وهو ما ظهر عبر رفض واشنطن لأية مشاركة إسرائيلية في غزو العراق أو توجيه ضربة جوية لمنشآت البرنامج النووي الإيراني حيث الفشل أو قدرة الخصم على القيام برد صاعق يمكن أن تكون له تداعيات كارثية تضيع عبرها جهود سبعة عقود بكل تكاليفها لبناء مخفر متقدم قادر على أن يكون «بديل القوة» الغربية في المنطقة.
كانت ردود الأفعال الأولية التي صدرت عن مختلف الأطراف تشير إلى عدم وجود رغبه لدى الجميع بالتصعيد والكل يرى أن لا بديل من احتواء الموقف، إلا أن أوجاع الجميع هنا ليست واحدة، فإسرائيل تدرك جيداً خطورة انجذاب الفراشة إلى دائرة الضوء المغرية، فهذي الأخيرة تشكل أيضاً دائرة الردى الذي ستلقاه حتما حال دخولها للمجال المغناطيسي الخاص بتلك الدائرة، إلا أنها تدرك أيضاً أن البقاء في الجغرافيا هو أمر يستدعي الكثير والقاعدة الأساس فيه هي أن التراجع على أي جبهة من الجبهات ليس إلا بداية للسقوط، وإذا ما كانت التركيبة القائمة لدى الخصوم تمنح هؤلاء القدرة على امتصاص الصدمات، فإن هذي القدرة الأخيرة لديها هي شبه معدومة، الأمر الذي يحتم اجتراح السبل الكفيلة بتجريد الخصوم من مخالبهم أو قدراتهم في تصدير الصدمة إلى الكيان الإسرائيلي، وهذي العملية الأخيرة هي من النوع شديد التعقيد يحتل الخيال فيها الحيز نفسه الذي يحتله الواقع، وإذا ما كان هذا الأخير من شأنه أن يرسي معادلات قوة أو وسائل ردع لا بد منها لمنح التركيبة الإسرائيلية الإيمان بإمكان البقاء، فإن جموح الخيال من شأنه أن يقدم الحلول لإنشاء خط دفاعي متقدم بعيد عن معادلات القوة أو وسائل الردع أو هو متقدم عليهما، وعندما يموت «جموح الخيال» فذاك سيكون إنذاراً بالذبول الذي لن يلبث أن يصبح ذبولاً دائماً.
نحن هنا لا نقول إن مرحلة الذبول قد بدأت، أو أن حادثة إسقاط الطائرة قد فتحت أبوابها على مصاريعها لتلك المرحلة، فدون ذلك مراحل ومراحل وإسرائيل لا تزال بالغة الأهمية لحكومة «الظل» التي تدير هذا العالم، وهي لن تعدم الوسيلة في إبقاء «سيرومها» يغذي أنسجة وخلايا ذلك الكيان، إلا أن اضطرار الذات الإسرائيلية إلى الانكماش كل حين والعودة إلى الوراء لبناء خط دفاعي جديد لا يلبث هو الآخر أن يعود أيضاً إلى الوراء لبناء خط دفاعي متأخر.
هذه «الاضطرارية» تشكل حالة «نقص مناعة مكتسب» لا يستطيع الخارج إيجاد بديل لها، أو النجاح في معالجتها وهو سيكتشف في أتون محاولاته لكي يفعل أن تكلفة العملية تفوق المكاسب المتأتية من الكيان وهو صحيح الجسد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن