ثقافة وفن

الحنان الحقيقي

| د. اسكندر لوقا

للعطاء في الحياة أكثر من مفهوم أو معنى رغم اختلاف الأمكنة والأزمنة عبر التاريخ، سواء أكان مادياً أم معنوياً. فالابتسامة الدافئة، على سبيل المثال، حين تصدر عن عاطفة صادقة، يكون لها وقعها الأشدّ تأثيراً في نفس المتلقي من تأثير أي عطاء مادي في حال تجسد هذا العطاء في قالب عطاء منّة أو عطاء لقاء مقابل مهما يكن حجمه أو نوعه.
إن لمسة الحنان أو دفقة الحنوّ تقارب، أحياناً، من حيث قيمتها على صعيد العلاقات الاجتماعية، أعلى مما يمكن للمرء أن يناله، وذلك على نحو الغريق الذي يحاول التمسك بحبل نجاة حتى لو كان الحبل المتوهم شعاعاً من أشعة الشمس.
وحين يتجسد الحنان موقفاً نابعاً من القلب، يكون له أثر القطرة النابعة من جوف صخرة تروي أرضاً عطشى. كذلك النفس التي تحتاج إلى لمسة حنان حقيقية، وخصوصاً في زمن بات فيه الحنوّ على الآخر ممارسة من الماضي.
إن سورية اليوم، وهي تخوض معركة وجود حقيقية مع أعدائها، لا يمكنها التخلي عن قيم المواطنة، بل لا يحق لها أن تتخلى عنها، لأنها سبق أن استوعبت موجات سابقة من الحقد على أبنائها، وكانت دائماً المنتصرة على ظروفها القاسية، من خلال مشاركة أبنائها بعضهم بعضاً، في الأفراح والأتراح، وكانت المثل الذي يحتذي به الآخرون، إلى أن جاء شهر آذار الأسود في عام 2011، في محاولة إسقاط قيم المشاركة بين الأخ وأخيه، بين الصديق وصديقه، وحتى بين الذات والذات إلى حد حدوث مرض الانفصام في الشخصية الواحدة في كثير من الأوقات والأماكن.
سورية اليوم، هي بلد التآخي، على الرغم مما تعاني. وتبقى كذلك لأنها تعيش حاضرها بعمق، وبمشاعر المواطن شقيق المواطن مهما اختلفت درجة القرابة بينهما. ومن هنا تتجسد لمسة الحنان الحقيقية على جبين أب فقد أسرته أو أم فقدت أبناءها أو أقرباء لم يعودوا على قيد الحياة. هذه اللمسة التي نشاهدها، بين يوم وآخر على شاشة التلفزة، وقد تجسدت واقعاً على الأرض، في الشارع أو في المأوى، هي ذاتها التي سبق أن مسحت جبين مقاتل ضحى بحياته شهيداً على أرض الوطن أيام الاستعمار الأجنبي عثمانياً كان أم فرنسياً.
إنها اليد ذاتها التي تؤدي دوراً في رعاية ذوي الشهداء، آباء وأمهات وأبناء وبنات وأشقاء، لأنها ذاتها اليد التي رعت ذوي شهداء الأمس القريب أو البعيد نسبياً، ولن تكون غير ذلك في إطار العطاء غير المحدود في الوقت الراهن.
وسورية اليوم إذ تؤدي دوراً على هذا النسق، فهي عملياً ترسخ وجودها على الأرض، كما كانت بالأمس، في أزمنة المحتل الأجنبي، وكما هزمته لا بد أن تكون الهزيمة من نصيب غزاة اليوم. ولا بد أن يعيد التاريخ نفسه في هذا السياق، ولا بد أن يزهر عطاء أبطال قواتنا المسلحة العطاء المستحق للمسة حنان حقيقي من يد كل أب وأم كان له ولها شرف نيل شهادة أب أو أم الشهيد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن