ثقافة وفن

الفن والحرب.. جمال وقبح ومقاومة

| كرم النظامي

الفعل الإنساني القادر على إبداع الجَمال، قادر أيضاً على إشعال الحروب والتسبب بالخراب والدمار في ازدواجية مثيرة للجدل من حيث تكوين النفس البشرية..
من غابر العصور والإنسان يبني ويدمر، يزين ويشوّه، يرتقي القمم في بناء الحضارات ثم يهوي إلى حضيض النزعة التدميرية.. فإلى جانب إبداع لوحة تشكيلية أو نحت تمثال أو تأليف نوته موسيقية، يخترع ويكتشف ويسوّق وسائل الحروب والدمار ويُسخّر العلم لتطويرها.. أي إن الإنسان يحمل في أعماق روحه نقيضين: الحياة والموت!

إن الحرب على الرغم من لا إنسانيتها وقسوتها ونتائجها الكارثية على الإنسان والطبيعة والبيئة والتراث وجميع مخلوقات الأرض المنكوبة، شكّلت أرضية خصبة لتفتق الخيال على الإبداع من صميم الألم والمعاناة والخوف في تجل رائع للتطهر الروحي وتأريخ الحدث بلوحة أو أحفورة أو حتى ملحمة شعرية ومن هنا بالذات جاء الفن برسالته الخالدة التي لا تنطفئ عبر العصور..
الحرب أنجبت الإلياذة والأوذيسة والإنيادة والشاهنامة وغيرها من الملاحم الشعرية.. ولدرء الحرب شُيدت الحصون والقلاع والأسوار التي صارت تحفاً معمارية وأثرية، والحرب دفعت بالفنان العالمي بابلو بيكاسو إلى إبداع لوحة غرنيكا الخالدة «1» والتي هي عبارة عن لوحة جدارية استوحاها من قصف مدينة غرنيكا الإسبانية بالطائرات الألمانية والإيطالية لدعم حكم الجنرال فرانكو الفاشي عام 1937.. وتجسدت فيها كل مظاهر الخراب والدمار والألم الإنساني.. والحرب الأهلية في فرنسا في عام 1830 خلدها الفنان الفرنسي يوجين ديلاكروا بلوحة (الحرية تقود الشعب) وهي لوحة زيتية جدارية «2» تحمل رموزاً ودلالات ثورية على هيئة امرأة ثائرة فارعة الطول، حافية القدمين، ترفع علماً بيد وبندقية باليد الأخرى بين ركام من جثث القتلى..
وعقب الحربين العالميتين في القرن الماضي ظهرت تيارات فنية ومدارس عديدة كالواقعية والرمزية والتعبيرية رصدت ويلاتهما وتماهت مع حركة أدبية رافضة لبشاعة الحروب وداعية للسلام والحب والخلاص الفردي.. فالشاعر الفرنسي ايلوار مثلا كان يكتب قصائده في مرسم بيكاسو، ولويس اراغون كان ينشر لوحات أصدقائه الفنانين على صفحات جريدة الحزب الشيوعي الذي كان يرأسه.
والفنانون السوريون من الرواد لم يكونوا بمنأى عن تناول الحروب وآثارها في أعمالهم الفنية التشكيلية الخالدة بدافع الإلتزام والروح الوطنية.. حيث رصدوا آثار الانكسارات والانتصارات معاً، ووظفوا تجربتهم الإبداعية في إنجاز لوحات تموج بالدلالات التعبيرية والرمزية عن حالات الحزن والفرح والأمل من خلال رؤية تشكيلية تفرد بها كل فنان.
فالفنان الراحل لؤي كيالي أقام معرضاً تشكيلياً بُعيد نكسة حزيران 1967 التي أثرت في نفسيته وأدخلته في مرحلة كآبة انتهت بانتحاره، حيث جاءت لوحاته التعبيرية مغرقةً بالحزن والسواد «3» استخدم فيها تقنية الفحم، وقبلها كان شديد التفاعل مع المأساة الفلسطينية من خلال معرضه (من أجل القضية) الذي ضم ثلاثين لوحة غرافيكية وزيتية تلخص الألم والمعاناة والقهر الإنساني بسبب الظلم والطغيان.
كما أبدع الفنان الراحل نذير نبعة أروع لوحاته في مرحلة نهوض الثورة الفلسطينية، فهو من صمم شعار العاصفة الشهير لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإثر نكسة حزيران أيضاً أنجز مجموعة من اللوحات عن النابالم الذي استخدمه الصهاينة ضد المصريين مصوّراً الحزن والأسى المرتسم على وجوه الضحايا «4» ثم انتقل بعد حرب تشرين وانتصاراتها إلى رصد الفرح والأمل من خلال ابداع اروع لوحاته عن دمشق المتألقة المنتصرة المزدهية بجمالها مستخدماً الألوان الزاهية المضيئة والتكوينات ذات الدلالات الرمزية الساحرة كزهر الجلنار وثمار الرمان والورود التي ترفل من حولها امرأة فاتنة هي دوماً، دمشق.
وبالرغم من مرضه قبيل رحيله، كان مُصراً على إتمام آخر لوحاته (سورية) التي استعاد بها خطوطه القوية معبراً من خلالها عن التحدي والصمود والوقوف في وجه العاصفة السوداء التي لا تزال تفتك بها.
ولم يكن الفنان الراحل غازي الخالدي بعيداً عن تفاعله مع انتصارات حرب تشرين أيضاً كغيره من الفنانين السوريين، فلوحاته الرمزية والتعبيرية حفلت بالفراغ المنظوري واللوني الحامل لشكل المرأة العارية كرمز للأرض المستباحة أو المقهورة، لكن يصحبها باستمرار (الحصان) الجموح الثائر «5». وموضوعه دوماً دمشق المزدهية المتألقة.
وكثير من الفنانين السوريين تألقوا بأعمالهم التي عالجوا فيها موضوع الحرب، حيث حملت الاحساس العفوي وضجت بالاتجاه التعبيري والرمزي والاختزال والتحوير بهدف الوصول إلى الإيحاء المطلوب الذي تؤديه لمسات اللون الكثيف ودرجاته المتفاوتة على سطح اللوحة، كالفنان الراحل فاتح المدرس وعبد المنان شما وممدوح قشلان ونعيم إسماعيل وبرهان كركوتلي وغيرهم كثر.
وفي اللحظة الراهنة حيث لا تزال الحرب القذرة تضرب بأرجاء سورية، ظهرت أعمال تناولتها ورصدت انعكاساتها وآثارها المادية والروحية وأحزان المشردين وغرقى البحار من المهاجرين والطفولة المعذبة كلوحات الفنان عبد الحميد الفياض وسرور علواني وعصام درويش وغيرهم، والمرحلة القادمة ستميط اللثام عن الكثير من التجارب والأعمال المهمة التي ستؤرخ لهذه الحرب القذرة.
في الحرب يموت ويزدهر الفن في آن.. فالفنان يحاول التحدي رغم الموت المحدق به.. فبوسائله السلمية الشفيفة من خامات وألوان وأدوات، يعلن موقفه ويطلق صرخته في وجه المآسي والويلات وهو في خضم الأهوال كالفنان السوري الآن، ولكن بدافع الأمل يستمر وسينتصر.. إن الإبداعات الإنسانية فيما بعد الحروب، خلدت آثارها وتماهت مع كوارثها لتكون إشارة خطر وعبرة للأجيال القادمة، كما مهدت أرضية ظهور تيارات فنية مدرسية معاصرة فتحت آفاق الفن الحديث بدأت بالواقعية الرمزية ولن تنتهي بالتجريدية أو السوريالية.. فالإنسان كائن خلاق وتصقله التجارب القاسية كالحروب وغيرها من مآس.. إن الأصل في البقاء للحب والسلام والإبداع!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن