ثقافة وفن

أسلافنا يتبرؤون مما نعيشه وننسبه إليهم … مجتمع دمشقي عرف بالحب والتكافل وكل ما نفتقده هذه الأيام

| منير كيال

درءاً لما قد يذهب إليه البعض من أن هذا البحث يحمل في طياته الدعوة إلى أن نكون منغلقين على أنفسنا، وألا نطمح لرؤية ما هو أبعد من أنوفنا، في وقت يطلع علينا العالم بكل جديد لم يكن بالحسبان، بل لا يمكن تصوره، ولا يأتي ببال أحد، فالحياة في تطور لا حدود له، ومن لا يتقبّل أن يعيش أحداث تطور الحياة وتبدل أحوال علاقات المجتمع، لا فائدة تُرجى من حياته، حتى لكأنه يعيش على هامش الحياة، وينطبق عليه قول المثل الشعبي: صفر على الشمال (اليسار) لكونه لا يقدم ولا يؤخر وأن وجوده وعدمه سيّان.
ويمكن القول إن حياتنا المعاصرة تكاد تتبرأ مما كان عليه أسلافنا في أواسط القرن العشرين على أقل تقدير، يوم كانت أواصر التعايش والتعامل والمواقف بين الناس غير الذي يعيشه المجتمع هذه الأيام، ولو توقفنا عند ما كان من أحوال الأسرة في ذلك الحين، لوجدنا من تلك المواقف من علاقات العجب العجاب!!..

روابط أسرية
ذلك أن روابط الأسرة التي كانت في ذلك الحين، وما كانت عليه من روابط واختلاط ومشاعر، لا تكاد ترتبط بما عليه الحال بين شباب وفتيات أيامنا هذه، تلك العلاقة التي قد تكون على سبيل التسلية، أو تزجية الوقت، وغالباً ما كانت تنتهي ببحث الشاب عن فتاة أخرى، أو يقع بعلاقة أخرى يُمضي بها بعض الوقت، وغالباً ما يكون رأسمال الشاب في ذلك وسامته أو امتلاء جيوبه وبذخه.. وبالمقابل كان الشاب في أواسط القرن المنصرم (العشرين) من طلاب الجامعة السورية (دمشق) إذا صدف أن وقف مع طالبة زميلة له، أو حتى بعض الزميلات، لأمر يتعلق بكراريس المقررات الدراسية أو نحو ذلك.. كنت تراه وقد تصبب العرق من جسمه، ويتلعثم لسانه، ولا يكاد يستطيع التعبير عما يريد أو يطلب، أو يستجيب لما تطلبه منه زميلته، بنطاق المقررات الدراسية (نوطاتها) وما إلى ذلك.

البحث عن زوجة
وبالطبع إذا كان ذلك النمط، قد يكون موجوداً بين طالب وطالبة من الجامعة، فإنه من النادر أن تعرفه الأسرة في الأوساط الأخرى من مجتمع تلك الأيام.. حتى بين الجوار أو نحو ذلك.
كنت تسمع أن والدة الشاب بالاتفاق مع والده، إذ رغب أن يفرحا بولدهما، تقوم الأم بالبحث لابنها عن هذه الزوجة التي هي قسمته ومخلوقة من ضلعه كما يقولون، فقد تجدها الأم بين الأهل أو الجوار، بل قد تصادفها بين المستحمّات بفترة استحمام النساء في حمام السوق، وفي الوقت نفسه لم يكن بحال من الأحوال أن يطلب بالشاب من والدته أن تخطب له فلانة أو علانة للزواج، وفي جميع الأحوال لم يكن الشاب ولا الفتاة المطلوبة للزواج منه، على صلة أو معرفة من قريب ولا من بعيد.. وإذا صادف أن طلب الشاب إلى والدته التعرّف إلى من ستكون زوجة له وأماً لأولاده، فإن ذلك يكون بشكل غير مباشر وبحدود قد لا تُلفت الانتباه أو الريبة، ودون أي إعداد للفتاة لهذه المناسبة، كتسريح (ترجيل) الشعر أو الزينة (الماكياج)، وإنما يكون ذلك مجرد نظره عابرة، تزول من الذاكرة، إذ لم يكن ثمّة نصيب للزواج بين الطرفين، وبالطبع فإن ذلك على غير ما نلحظه وما نجده من بون شاسع بين انطلاق المرشحة للزواج في هذه الأيام من حيث المظهر والملبس، والرؤية المباشرة مع التحديق بالتفاصيل، وكانت الفتاة إذا تزوجت في أيام زمان، فإنها تلزم بيتها، ولا تخرج منه إلا للشديد القوي كما يقولون، وفي حال الضرورة التي تستوجب خروج المرأة من بيتها أيام زمان، فإن ذلك يكون بارتداء الملاءة السوداء، وهي لباس أسود يتكوّن من قسمين: القسم الأول هو الخراطة، وهذه الخراطة لباس من جذع المرأة أو الفتاة التي قد تضطر للخروج، حتى قرب القدمين، وأما القسم الآخر من ملابس المرأة أو الفتاة بالسوق فيطلق عليه اسم (الفجة) وهي لباس يكسو القسم العلوي من ثياب تلك المرأة أو الفتاة، وذلك من الرأس حتى وسط المرأة، ويكمل هذه الفُجّة منديل أسود يغطي الوجه، وقد يرفع عند الحاجة، والتمييز بين المرأة المتزوجة والفتاة يكون في ربط تلك الفجّة على الرأس من الخلف، فإن كان ذلك الرباط من تحت الفجة فهذا يدل أن المرأة التي ترتدي هذه الملاءة متزوجة، وإذا كان رباط الفجة من الخارج فهذا يدل على أن من ترتدي هذه الملاءة فتاة غير متزوجة، ومن جهة أخرى فإن المرأة إذا اضطرت للخروج من بيتها إلى السوق، فإنها لم تكن تحمل بيدها شنطة أو حافظة نقود، وهي تستعيض عن ذلك بما يُشبه الجيب تشده أو تربطه على خصرها تحت الخراطة المذكورة.
التكافل الاجتماعي

ومن جهة أخرى فإن ظاهرة أخرى كانت معروفة أيام زمان، افتقدناها في أيامنا هذه، إلا من بعد الحالات النادرة، وأعني بذلك ما يعرف بالسكبة أو التساكب بين الجارات، وخاصة في شهر رمضان المبارك، ذلك أنه لم يكن لرب الأسرة توفير أكثر من وجبة من الفول المدمس بالزيت البلدي مع البصل المفروم والبندورة والبقدونس المفرومين لإفطار ذلك اليوم، فإنها مائدة الفول المدمس هذه تراها عند الإفطار، بما لذ وطاب من أشكال الطعام التي تفتح الشهية وتُسيل اللعاب، وهذه الأطعمة التي تلونت بها مائدة صحن الفول المدمس إنما هي حصيلة تساكب الجيران مع الفول المدمس الآنف الذكر، وكان الدماشقة يبتغون من تلك السكبة الثواب من عند الله تعالى، ولم تكن هذه السكبة قاصرة على إفطار أيام شهر رمضان، وإنما كانت جارية على مدى أيام السنة، وكانت الأسرة التي ليس عندها من يوصل هذه السكبة إلى الجيران، فإن سيدة البيت تكلّف إحدى فتيات الأسرة بالصعود إلى سطح المنزل لتنادي على هذه الجارة أو تلك، عبر الطاقة التي بالطبلة (الجدار) الفاصلة بين سطح المتجاورين، فتعطي الجارة هذه السكبة قائلة: الوالدة اشتهت لكم هذه الأكلة.. إن شاء الله عوافي.. وقد شاهدت بأم عيني في خمسينيات القرن المنصرم (العشرين) في محلّة باب البريد بدمشق، رجلاً يحمل صينية من الكباب الهندي وقد خرج بها بعد طهيها بفرن أبو حرب في تلك المحلة، فإذ به يتوقف ليطعم منها امرأة يبدو بطنها لحلقها بمعنى أنها حُبلى.. كان ذلك من مخافة أن تشتهي تلك المرأة الكباب الهندي وتظهر هذه الشهوة (الوحام) في مكان ما من وجه الجنين أو رقبته، فيتشوه ذلك المكان.
وهذا التساكب بين الجيران قد يكون على سبيل المباهاة بين الجوار، كما قد يكون من باب الاشتهاء أو الوحام، لأن الرأي السائد في تلك الأيام أن المرأة الحبلى إذا رأت أو شمّت رائحة طعام ولم تتذوقه، وحكّت مكاناً في جسمها أو وجهها، لحظة الاشتهاء، فإن ذلك يترك أثراً مكان حك الحبلى من جسمها، وبالتالي يتشوه ذلك المكان من جسم الطفل الوليد.

المناسبات الدينية
وكان مسحر رمضان من الأمور التي افتقدناها في حياتنا المعاصرة، لأن من يعمل مسحراً في هذه الأيام ليس له صلة من قريب ولا من بعيد بمسحر رمضان، لقد كان للمسحر دور في إيقاظ الناس إلى سحورهم كلّ باسمه، وكان العتب كبيراً على المسحر إذا لم يوقظ أهل هذا البيت أو ذاك البيت، فضلاً عن ذلك، فقد كان المسحر أيام زمان داعياً إلى ذكر الله وإلى المحبة والكرم ومندداً بالبخل وأهله، وكنا ونحن أطفال نحب المسحّر ونؤثره على أنفسنا فتقدم له ما لذّ وطاب، وكان الواحد منا ينتظر المسحر بفارغ الصبر بعد الإفطار، ويطلب كل واحد منا إلى أهله إكرام هذا المسحر، رغبة منه بأسماعنا ما عنده من مقطوعات عن زوج الاثنتين (الضرارير) والقطة أم زليخ وغير ذلك، فضلاً عن هذا وذاك، فقد كان المسحر يحمل إلينا بشارة حلول شهر رمضان المبارك وحلول عيد الفطر وعيد الأضحى، ويبارك بعيد المولد النبوي وعيد رأس السنة بحلول شهر المحرم كما يبارك لنا بيوم عاشوراء ليلة النصف من شعبان، وفي جميع هذه الأحوال تراه قانعاً بسيطاً هنيّاً.. على غير ما نشعر به إزاء من يتخذ حرفة التسحير كاراً له في شهر رمضان بهذه الأيام، وهو غير قادر على أن يصفُّ كلمتين مع بعضهما، حتى إنني علّمت أحد المسحرين مقطوعة في المناسبات التلفزيونية التي استدعت وجود المسحر.. ولعلنا لا ننسى ما كان يعانيه المسحر في ذلك الحين من سوء إنارة الحارات ووعورة أرضها ما يسبب له أن يتكعتل (يقع) هنا أو هناك من هذه الحارة أو تلك، ولعل هذا كله من الأمور المحتملة إزاء ما كان يعانيه المسحر من جنود سلطة الاستعمار الفرنسي التي أراحنا الله منها، وكان للمسحرين بتلك الأيام مشيخة تنظم عمل كل منهم في مكانه (المحيط الذي يقوم بتسحير أهله) وهو لا يتعدى ذلك وكان التسحير محصوراً بأسر (عائلات) محددة تتوارث عمل التسحير.
وفي ضوء ما أتينا على ذكره بهذا البحث، فإنه من الممكن أن نتوقف عند مواقف كان لها شأن في حياتنا وخاصة ما كان عليه أسلافنا في استقبالهم لعيد الفطر وعيد الأضحى وما كانوا عليه من تحابّ ولقاء وعطاء وتسامح يوم كان الأطفال ينطلقون إلى الأراجيح والدوّاخات وعربات مريكب ومن ثم تلاقيهم عند باعة الفول النابت، وشدوهم وأغانيهم وفرجتهم على الضبع الذي أكل بائع الحلاوة على طريق جوبر، والحاوي، والرأس المقطع الذي يتكلم ويغني، وتناولهم المخلل وشراب الطويلة والقصيرة بلذة ما بعدها لذة، والأروع من ذلك ما كان من لقاء الأسرة على مائدة رب الأسرة، وكيف انكفأ ذلك وانعدم، وأصبح ذلك التلاقي والتواد والتراحم عن طريق الموبايل، وما إلى ذلك من أمور الإنترنت والفيس بوك، وما قد يطلع علينا من وسائل الاتصال، كبديل للتعاطف وصلة الرحم والبر والعطاء والتسامح ولقاء الأكف بالمصافحة والتسامح، ومتعة اللقاء، ولو أتينا على ما يخطر ببالنا من أمثال هذه المواقف لطال بنا البحث، مع أن تلك المواقف حلم عاشه أسلافنا، وشيء من نشوة الماضي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن