ثقافة وفن

لنستيقِظْ، لقد أصبحوا مجانين … سورية التاريخية هي منارة ومركز الثقل في الشرق وقلب العروبة ورمز الإسلام المعتدل 

| السفير ميشيل رامبو – ترجمة الأب الياس زحلاوي

سورية في حالة حرب منذ قرابة سبع سنوات. إن هذا البلد اللطيف، السمح، الذي بلغ من الحضارة ما كان يجعل حتى المتحاملين عليه، لا يمتنعون عن الإقرار بجماله وجاذبيّته، هو اليوم، ومنذ فترة لا بأس بها، يواجه تحدّياً هائلاً، هو تحدّي ما بعد الحرب. فإن المعتدين البرابرة، الذين وفدوا إليه من مئة بلد، أطلنطي وإسلامي، قد فعلوا كل ما بوسعهم من أجل تدمير ثرواته، وبناه التحتية، وقدراته وآثاره وجمالاته الطبيعية، كي يمحوه من الخريطة. ولقد حاولوا أيضاً وخصوصاً أن يطحنوا الشعب السوري، ويُلغوا ذاكرته وهويّته، كي يمحوا وجوده!
وهم يَسعون الآن، في تواطؤ مع «أسرة دولية» مزعومة ومقنّعة، إلى حرمانه، قدر المستطاع، من كل رجاء مستقبلي، وذلك بحرمانه من حقوقه الثابتة: أي أن يكون سيّد نفسه، وأن يقرّر، دونما أي تدخّل أجنبي، مصيره ونظامه السياسي. إنّ هؤلاء المعتدين أنفسهم لا يخفون، بعد أن تخلّوا عن كل حياء وخجل، تطلّعاتهم في وضع مستقبل سورية، وهو دستوري بامتياز، تحت «وصاية الأمم المتحدة»، أي تحت انتداب، وهذا يعني بصريح العبارة، تحت حكم استعماري.

وفي سعيهم إلى إلغاء الحضور الجغرافي الذي لسورية، أم الحضارة (بما فيها حضارتنا)، هل من سبيل أكثر فعالية من تشريد شعب، وخصوصاً تحطيم دولة، كل جريمتها أنها رفضت الخضوع «لصاحبة الجلالة»؟ وفي الواقع، فإن المشروع في نهاية المطاف، يرمي إلى تحويل سورية الكبرى، كما عُرِفَت قديماً، إلى مجموعة جزر من الكيانات الهزيلة، وإلى تحويل شعبها إلى «موزاييك عشائرية»، مدعوّة للتلاشي في شتات واسع. إن هذه الجريمة النكراء تستحقّ في مقاربة أولى، أن توصف «بالجريمة السياسية» – التي ترمي إلى إلغاء دولة مزعجة – و«بالجريمة العرقية»، التي ترمي إلى إفناء شعب يقاوم.
هذا ما جاء في خطة «المشروع الكبير» للمحافظين الجدد. ولنلاحظ بالمناسبة، أن هذا المشروع ليس سوى جرّ سورية إلى المصير الذي حلّ بفلسطين منذ سبعين عاماً، وفلسطين جزء من أرض سورية، سُرِق برعاية الاستعمار القهّار. وعندها فقد يشبه مصيرُ السوريين، مصيرَ الفلسطينيين الذين نُهبت أرضُهم منهم على نحو قاطع، باسم «رسالة إلهية». إن المصير المشؤوم الذي فرض على شعوب القارة الأميركية، وقد أُخرِجوا من التاريخ، ماثل أمامنا ليذكّرنا بمدى ما يستطيع فعله المستعمرون القادمون من خارج البلاد.
إنّ كمّ الخراب لهائل! وهو يقدّر بمئات المليارات من الدولارات. ويجدر بنا أن نضيف إليها الملايين أو البلايين، أو التريليونات التي أنفقتها «القوى» المعتدية – وتلك مشكلتها! – في حروبها من أجل «تحقيق الديمقراطية».
ليس ثمة أي فائدة من التذكير بقيم الأخلاق، الطبيعية أو الدينية، ولا بالقانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة، ولا بمجرد الخجل، حيال مُعتدين لا إيمان ولا قانون لهم. ولا يسعنا أن نتوقّع شيئاً من العقلانية، من دول تنصّب نفسها شرطياً على كوكب الأرض. وبعد كل هذا الزمن، وهذه الأهوال والمجازر، والأعمال الوحشية، وهذا القدر من البربرية، ثمّة مفارقة في العثور في هذا الغرب «الديمقراطي» العظيم، على مثل هذه الأعداد من المدافعين عمّا لا يمكن الدفاع عنه، ومن المعجبين بالجهاديين، الذين يصوّرونهم لنا بأنهم ديمقراطيّون و«مُعتدلون». فالمثقفون أُخذوا في فخّ تعاميهم الأول، ووسائل الإعلام أُخضِعت للسياسة الرسمية، وأما السياسيون، فهم رهائن سياسة المحافظين الجدد، في فرنسا كلها، وكذلك في العالم الغربي كله.

لمَ مثلُ هذا الإصرار
ومثل هذه المكابرة في الكذب؟
ذلك بأن سورية مستهدفة منذ زمان بعيد، من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، وأن سورية التاريخية هي مركز الثقل في الشرق الأدنى، وهي مهد الديانات السماوية الثلاث، وهي قلب العروبة النابض، ورمز الإسلام المعتدل والسموح، ومقرّ الخلفاء الأوائل. إنه إرث من العسير جداً الاضطلاع به، ولكنه ضَمِنَ لـ«منارة الشرق» هذه، سِحراً في نظر العرب لا يقبل النقاش، وهالةً من المودّة لدى المسلمين.
إن سورية هذه، السمحاء، المتعدّدة الأديان، الحديثة، سورية ذات النظام الجمهوري، والقوية بهويتها وبوعيها التاريخي، إنما هي تمثل أشدّ ما يكره المتطرّفون، على اختلاف انتماءاتهم.
سورية هذه، منذ استقلالها ونشوء «إسرائيل»، لم تكفّ عن دعم القضية الفلسطينية دعماً مطلقاً، وهي تتبدّى دوماً دولة عصية على النظام الإسرائيلي – الأطلنطي. وإزاء هلهلة العالم العربي، وقفت سورية في محور المقاومة، وإنها لتقاوم! فقد صمد جيشها الوطني بمفرده في وجه الجميع، طوال أربع سنوات. ثم بدأ، بدعم من حلفائه، تحرير أرضه، وقد أثبت بذلك أنه القوة الرئيسة في استئصال داعش، على الرغم من أكاذيب المغتصبين وادعاءاتهم الجوفاء. وقد باتت الدولة السورية تتحكم الآن بأربعة أخماس أرضها الوطنية، بعد أن أحبَطت بمرونتها مخطّطات المعتدين.
إنهم يرون أن سورية عام 2018، تشكل، بعد مجمل هذه المعارك والمحاولات الفاشلة، حقيقة غير معقولة وغير محتملة. ولا بد إذاً من محوها من الخريطة، حتى لو لم يكن ذلك إلا بتجاهلها. ولذلك، كان لا بد من نزع الشرعية عن دولتها، إذ خلعت عليها بصورة منتظمة، صفة «النظام»، وعن مؤسساتها ودستورها، وحكومتها، وكان لا بد من شيطنة رئيسها، وتجاهل إرادة شعبها ونجاحات جيشها، ونسبتها إلى حلفائها، بل إلى أعدائها.
ويجب أن يُنزع من رئيسها ومعاونيه، كل سلطة، وكل دور مستقبلي، وكل حقّ في الاعتراض. كما أنه يجب العمل على استحالة حلّ سياسي «سوري»، نابع من حوار وطني برعاية حلفائه وأصدقائه. ويجب على العكس من ذلك، أن يقرّر مصيرَه، أعداؤه، و«الأسرة الدولية» المتربّصة به، والدول الثلاث التي تمثّل (470) مليون إنسان، أي ما بين 6-7 بالمئة من سكان الأرض جميعاً، الذين يتحرّقون لعجزهم عن فرض قانونهم على مجلس الأمن.
لقد بات واضحاً أن العالم سقط على رأسه، لأنه لم يعد ثمة أي مرجعية دولية، وأي احترام للقانون الأممي، الذي يُفترَض فيه أن يكون بمنزلة «المرجعية المقدسة» لمتعاطي العمل الدبلوماسي. فإن شُرَط العالم المزيّفين، وقد باتوا هم مثيري الفوضى فيه، وإن اللصوص الذين ترتفع أصواتهم ضد اللصوصية، وإن مغتصبي الشرعية الذين يندّدون بالاغتصاب، وإن المعتدين الذين يستنكرون «اعتداءات» الجيش السوري، وإن ممارسي التدخلات غير المشروعة الذين يغضبون من التدخل المشروع لحلفاء الدولة وشركائها، إن كل هذا العالم المتغطرس يتحرك ويناور أمام الملأ!
انتهى زمان الممثّلين والقوى الزائفة. فها هم اللاعبون والرعاة الحقيقيون يخلعون الأقنعة، ويسعون علناً لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه بالوكالة، طوال سبع سنوات. فثمة إسرائيل في الجنوب، وأميركا وأتباعها الأوروبيون في الشمال الشرقي، يدعمون القوات الكردية التي طالما مجّدوا بها، وتركيا في الشمال الغربي ضد المشاريع الكردية، والجميع ضد بشار الأسد. وها قد تبدّت الآن على حقيقتها التامة، ذريعة الحرب على داعش والإرهاب، بوصفها كذبة فاضحة يدافع عنها أعداء سورية، ولم يعد يؤمن بها سوى الأغبياء!

سورية صمدت وجيشها قادر
على مواجهة الاعتداءات
إن السيد «جان- ايف لو دريان»، وهو وزير الدفاع الفرنسي، يطالب (أجل!) «بانسحاب جميع من ليس لوجودهم مبرّر للبقاء في سورية». لقد فعلها! واحزروا من الذين لا مبرّر لوجودهم في سورية؟ أجل، لقد أصبتم: إنهم إيران، الشيطان الجديد والشهير، وحزب الله، الذي يرعب إسرائيل، وروسيا، وقِوى العراق «الشيعية»!
وأنتم بالتالي تعرفون ما البلدان التي لها حقّ الوجود في سورية: إنهم الثلاثة المهووسون بالقصف الإنساني، أولئك الذين يملكون أسلحة الدمار الشامل، والذين ينتهكون بصورة منتظمة القانون الدولي، ويدعمون الإرهاب، ما لم يكونوا هم الذين خلقوه، أولئك الذين يريدون أن ينهبوا بطمأنينة مصادر النفط والغاز في سورية والمنطقة، أنهم بصريح العبارة، الولايات المتحدة وأتباعها. ولكي نكون منصفين، فلنضف إليهم إسرائيل، صديقة «الثورات العربية» التي تدمّر الدول التي تحمل هذا الاسم، والسعودية، ذات الديمقراطية العظيمة، التي تتخذ اللـه شاهداً عليها، وصاحبة الاختصاص بالدساتير وبحقوق الرجل والمرأة، وبالتسامح الديني… وتركيا، العضو البارز في الحلف الأطلسي، عدوة أتراك الجبال، ولكن صديقة الأكراد الانفصاليين في سورية أو العراق، وداعمة الجهاديين، وقطر، شريطة أن تواصل شراء كل شيء وأي شيء، في بلدنا المنهك بالمصاعب.
وإلى ذلك، فإن سورية قد صمدت خلال سنوات طويلة. وإن جيشها لقادر على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، وعلى إسقاط الطائرات التي تهاجمها. وإن سورية لراسخة بقوة في محور المقاومة، وهو محور متماسك ومتقن التنسيق. وسورية يدعمها حلفاء موثوقون، وفي طليعتهم روسيا. وسورية ليست مجرد ممثّل، بل هي في قلب حرب كونية. فكم من دولة كان بوسعها أن تصمد، كما صمدت سورية؟
أيها السادة، «أصدقاء سورية»، يا أعداء «نظامها» ورئيسها، لقد أبقيتم على خرافة انتفاضة شعبية، ضد «حاكم مستبدّ سفاح». فما الذي يعنيكم من كل ذلك؟ لقد أخطأتم في حساباتكم كلها، وأنتم تعرفون ذلك جيداً، لأن البلد الذي تمقتونه حتى الهوس، هو في الحقيقة، وقبل كل شيء، ضحية حرب عدوانية تهدّد وجوده.
إن الدولة السورية تملك بكل تأكيد الحق في تسيير المفاوضات التي ستقرّر مستقبلها، وتملك الحق في رفض تدخلاتكم وخططكم التقسيمية، ومشروعاتكم الملتوية. إن الحروب في سورية هي، منذ زمان طويل، مُكوّنات لحرب كونية، في طريقها لأن تصبح حرباً «عالمية». وإن كان هذا العدوان يعني «الأسرة الدولية»، فإنما هو يعنيها وفق معايير القانون الدولي، كما حدّدتها شرعة حقوق الإنسان…
ولسوف يتضح هنا، أن هذه المقاربة، المشروعة وحدها، ستطرح عليكم مشكلة مربكة. وهذه المشكلة ليست مشكلة البلد المُعتدى عليه، بل هي مشكلة البلد المعتدي، وهو أنتم، أنتم الذين تتصرفون حيال سورية، على أنها «بلد مفتوح» لجميع المغامرات وجميع المشاريع المعادية.
أيها السادة المعتدون، لا تنسوا أبداً أن وجودكم في سورية، ووجود مخبريكم ومستشاريكم المختصين أو مقاتليكم، هو وجود غير مشروع وغير قانوني. ولئن كان هناك وجود مشروع بامتياز، فهو ليس وجودَكم، بل وجود الدولة السورية، ووجود حلفاء وشركاء حكومة بشار الأسد، هو الذي كنتم تطالبون برحيله. وإن كان ثمة انسحاب يفرضه احترام القانون الدولي، فهو انسحاب البلدان التي لا مبرّر لوجودها في سورية، أنه انسحاب بلدانكم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن