من دفتر الوطن

منيف و«الثورات العمياء»

| حسن م. يوسف 

قلت لعبد الرحمن منيف في لقائنا الأول، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، إنه يشكل بالنسبة لي نموذج الإنسان العربي القادم من المستقبل؛ فوالده سعودي وأمه من أصل عراقي وزوجته سورية وهو يحمل دكتوراه في اقتصاديات النفط، وله إسهامات بارزة في الصحافة والنقد الفني، وهو قبل كل هذا وبعده، أحد أهم الروائيين العرب خلال القرن العشرين.
ترجمت أعمال منيف إلى ما يقارب عشرين لغة حية في العالم، وفي كتاب بعنوان «الروايات المئة الأعظم على مر العصور» للناقد الأميركي «دانيال س. بيرت، احتلت خماسيته «مدن الملح» المرتبة الحادية والسبعين، وقد وصفها الناقد بيرت بقوله: إنها… «واحدة من أهم الروايات التي كُتبت بالعربية إن لم تكن أهمها على الإطلاق»، وهي تتألف من خمسة أجزاء وتقع في ما يقارب الألفين وخمسمئة صفحة.
صحيح أنه قد مضى على رحيل عبد الرحمن منيف أربعة عشر عاماً إلا أنه ترك لنا أكثر من ثلاثين كتاباً ما تزال تطرح علينا أسئلته المقلقة، وتستشرف مستقبلنا بشكل يكاد يكون مرعباً في دقته وعمقه!
غادر عبد الرحمن منيف السياسة بعد أن بلغ مكاناً قيادياً فيها، وهجر العمل في اقتصاديات النفط بعد أن صار مديراً لإحدى أهم الشركات في المنطقة، واتجه إلى الكتابة كي يقول الحقيقة لشعبه، ولم ينحرف عن مواقفه الوطنية والإنسانية رغم إقدام السلطات السعودية على إسقاط الجنسية عنه.
والحق أن عبد الرحمن منيف كان ولا يزال بالنسبة لي أحد أبرز المفكرين والمبدعين العرب الذين أثق برجاحة عقولهم ونزاهتهم. رغم ذلك لم أكلف نفسي تقليب صفحات كتابه «الديموقراطية أولاً، الديموقراطية دائماً» الذي صدرت طبعته الأولى عام 2001 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. لأن الكتاب وقع بين يدي بينما كان الضبع الأميركي يتهيأ للانقضاض على العراق مطقطقاً بسبحة «الديموقراطية»! والحق أن «ديموقراطية الأميركيين» الكاذبة التي يطبلون لها وبها، من خلال سيطرتهم على الإعلام والإعلاميين، حولت «الديموقراطية» في عقلي الباطن إلى حمار يركبه الأميركيون في رحلتهم لاحتلال البلدان واستعباد شعوبها وسرقة ثرواتها!
إلا أنني اكتشفت قبل أيام كم كنت مخطئاً لأنني لم أقرأ كتاب عبد الرحمن منيف ذاك، لأن منيف لم يتعامل مع الديموقراطية كصنم جديد، ولم يجد فيها الحل النهائي لكل مشاكل العرب، بل رأى أنها تشكل المناخ الذي يسمح بالحوار وصولاً لحل يحقق العدالة والسلم الاجتماعي.
أكثر ما استوقفني في كتاب «الديموقراطية أولاً» هو المقال الطويل الذي كتبه منيف بعنوان «سمات المرحلة الراهنة» في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ناقش فيه أطروحات الكاتب اللبناني كريم مروة التي نشرها متسلسلة في جريدة «السفير» وما جاء في الحوار الطويل الذي أجري معه في مجلة «الطريق» وقد قال عبد الرحمن منيف في الصفحة 37 من الكتاب:
«فالمرحلة القادمة، خاصة في المنطقة العربية، ستكون من أبرز سماتها، «الثورات العمياء»، إن صحت مثل هذه التسمية، والتي ستأخذ أشكالاً من الهياج، والعنف والتحدي، وسيقودها، في الغالب، الجياع والمحرومون، وسيكون دور القوى السياسية فيها ضئيلاً، عدا القوى السلفية، إذ سيكون دورها التعبئة والتحريض، أكثر مما هو القيادة…».
لقد رأى عبد الرحمن منيف الواقع الصادم الذي نعيشه الآن منذ أواخر التسعينيات، كما أطلق نبوءات أخرى لن أذكرها هنا كي تبحثوا عنها في الكتاب.
أيها السياسيون اقرؤوا كتابات عبد الرحمن منيف، فعلكم تتمكنون من تجنيبنا المزيد من الخسائر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن