ثقافة وفن

هواجس الغربة

| وسام حمود- السويد

عندما غادرت دمشق وتركت ورائي دموع أبي، وحاسوبي الذي يحمل كل الحروف التي أنتجتها مخيلتي عبر سنوات طويلة، اعتقدت أني سأبدأ مرحلة مخاض جديد خال من الأزمات، وأن أبواب القطب الغربي ستكون ملاذاً لآمال، وأحلام قطعتها الحرب اللئيمة، وأن الشوق لشوارع مدينتي سيمر على باب الذاكرة مرور كرام، وكما غيري خضت غمار البحر وأنا أضع أمامي صورة لذلك الآخر الذي سيلفني ويطبطب على كتفي المهزوم لترميمه من مشاهد كسرته وأنهكت عزمه.
رست السفن في أرض جذبتك ديمقراطيتها وقوانينها، وحقوق الإنسان فيها، والأمان الذي سلب وسرق من جسد بلدك، وضعت الحقائب وبدأت الرواية التي ما إن تكاد تنهي فصلها الأول بخاتمة أنك لا محالة باق حتى الممات، حتى تجد أن رائحة قوية تخترق مسامات دماغك فتنعشه لتبدأ من جديد صراعك مع الخواتيم.
يمر يوم ويطل بعده يوم آخر، سنة وراء أخرى، وعداد الوقت لا ينفك يلاعبك، في كل لحظة حساب للزمن، عام عامان، ثلاثة أعوام وأنت عاجز عن وضع حد للحنين، وعاجز عن رسم الفصل الأخير، ففي الغربة الفصول كلها شتاء، والربيع ليس حنونا، والصيف خال من الدفء، والخريف بكل ألوانه هو جعبة من الذكريات.
في الغربة لا تفضل التجول في الشوارع في وضح النهار كي لا ترى تلك البيوت المرسومة بعناية كما كنا نشاهدها في برامج الأطفال، بل تنتظر السماء أن تصبغ صفحتها بالسواد كي لا ترى سوى الأضواء من النوافذ والأبنية لأنها ليلا تتقارب مع أبنية ديارك، فتتوهم أنك في حي الزاهرة، أو أبو رمانة، ولكن حتما مهما حلقت بخيالك فلن تجد حارات الميدان في أي مكان لأنها لوحة لا يمكن للآخر أن يعيد تشكيلها في عماره الحديث البارد..
الأحلام في الغربة تبقى أحلاما غير قابلة للتحقق إلا بجلد الذات، وصلبها على جدران لا تحمل رسومات شاب مراهق أخبر حبيبته أنها أجمل فتيات الأرض، ولا تحمل شعارات الموت لإسرائيل، بل تحوي صورا تقف أمامها حائرا فهي لا تلبي مطالب روحك.
في الغربة تناقضات عظيمة وغريبة، وصراعات مريرة أقبح من صراعات على السلطة، هي بين القلب والعقل، وبين الروح والوجدان، والضمير، تجد نفسك أحياناً كما الدونكيشوت تحارب طواحين الحياة، معركة وهمية لا يوجد جنود فيها سوى أنت وذلك العقل الذي يرفض الاستسلام لمقررات القلب، والقلب الذي يأبى الخضوع إلا لنبضه.
صراعات وحرب طاحنة تبين لك من هم أدباء المهجر، ففي مراحلنا التعليمية في اللغة العربية كنا نمتعض ما لنا ولأدباء المهجر، ما ذنبنا لحفظ أدبياتهم وأشعارهم، اليوم فقط ندرك أن ما كتبوه ليس كلمات على ورق، بل ألم، وذل، وقهر، رسموه بدماء عيونهم لأن الغربة تنهشك من الداخل فتغدو روحا تهيم على كوكب الأرض لا تطال موطئ قدم، ولا ارتفاع سماء.. فتلجأ لما سجلوه من أحزان لأنك بت تتشارك معهم ذاكرة وطن.
في المفاهيم العقلانية يعتقد البعض أنك كنت محقا في الابتعاد، فالموت قريب حد الرمش، وفي مفاهيمي وكثر يؤيدون كان من المعيب أن نكون جبناء، فالجبن إحساس مؤرق يشطرك إلى ألف قطعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن