ثقافة وفن

التطبيع والمطبّعون في مصر كشف لخفايا المعضلة الكبرى … هدفت إسرائيل من «التصارعية» أو«التصالحية» إلى عزل وتحييد مصر والهيمنة على قرارها

| إعداد: سارة سلامة

صدر للدكتور رفعت سيد أحمد الكاتب والباحث المصري موسوعة بعنوان: (التطبيع والمطبعون في مصر1979/2011)، وكان قد استغرق إعدادها 6 سنوات من التوثيق والرصد والتحليل لكل جوانب العلاقات المصرية الإسرائيلية، وتقع في 3 مجلدات من الحجم الكبير بعدد صفحات تجاوز 2500 صفحة مبوبة في 6 أبواب رئيسية، إضافة إلى فصل تمهيدي عن مقدمات التطبيع وفصل ختامي عن التطبيع بعد ثورة كانون الثاني2011، ويتناول الباب الأول من الموسوعة التطبيع السياسي، على حين يتناول الباب الثاني التطبيع الاقتصادي، ويتناول الباب الثالث التطبيع الإعلامي، على حين يعرض الباب الرابع للتطبيع الثقافي، ويعرض الباب الخامس للتطبيع الاجتماعي، والباب السادس يعرض التطبيع الديني.

وتحوي الموسوعة وثائق مهمة منها محضر لاجتماع كسينجر وجولدا مائير، خلال مفاوضات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية عام 1974، ونماذج من وثائق المخابرات الأميركية عن عملية السلام عام 1977، وكذلك البيان التأسيسي للحركة الشعبية لمقاومة الصهيونية ومقاطعة إسرائيل، فضلاً عن نماذج من بيانات وأنشطة اللجنة العربية لمساندة المقاومة في لبنان وفلسطين والقائمة الكاملة لمجازر العدو الصهيوني من 1936 حتى 2012.

الفكرة المركزية للموسوعة

يستند هذا العمل الموسوعي إلى فكرة مركزية قوامها أن قصة الصراع العربي الصهيوني قصة معقدة، ومتداخلة، لا تزال تكتب سطورها بالدم حتى لحظتنا هذه، وأن فصل العلاقات المصرية– الإسرائيلية هو أكثرها طولاً وتعقيداً، نظراً لمحورية (مصر) في أمتها العربية، ولأن العدو الصهيوني اعتبرها العقبة الأولى والأخطر في المنطقة، التي تحول دون ترسيخ وجوده في فلسطين واختراقه للمحيط العربي والإسلامي، خاصة بعد فترة من العداء والمقاومة الصريحة له من نكبة 1948 وحتى حرب 1973، وكان ذروتها الحقبة الناصرية بخطابها الثوري، بتجربتها المعيشة سواء بانتصاراتها (1956) أم انكساراتها (1967)، ولقد كانت مصر، هي الأبرز والأهم في قصة الصراع سواء من المنظور الصهيوني أم من ناحية الواقع العربي، ولذلك عملت الإستراتيجية الإسرائيلية على هزيمتها وإن لم تفلح فاختراقها وتحييدها، ولا بأس في عزلها تدريجياً عن أمتها وقضاياها، وهذا هو جوهر ما سمي لاحقاً «التطبيع» الذي استهدف بالأساس «تعرية مصر»، عن ردائها العربي وفصلها عن جسدها الإسلامي وثقافتها التاريخية التي كانت «المقاومة» لمشاريع الاستعمار والهيمنة على قمتها.
لقد هدفت إسرائيل من خلال علاقاتها «التصارعية» (1948 – 1977) أو التصالحية (1977 حتى اليوم 2014) إلى عزل وتحييد مصر والهيمنة على قرارها المستقل وتحويلها إلى مجرد دولة ثانوية بلا تأثير في محيطها العربي والإسلامي، والغريب أنها وفى ذروة الصراع والحروب لم تنجح في هدفها هذا، لكنها بما سمي «السلام» والتسوية والعلاقات الاقتصادية والسياسية أو بما اصطلح على تسميته (التطبيع) نجحت على الأقل على مستوى القيادة الحاكمة، وإن استعصى عليها الشعب بنخبته طوال ما يزيد على 37 عاماً من التطبيع في كل شؤون الحياة المصرية.

نشأة السفارة وتاريخ العلاقات الدبلوماسية

يحدثنا التاريخ أنه قد تم افتتاح سفارة إسرائيل بالقاهرة يوم 26/2/1980 بعد أكثر من عام ونصف العام على توقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام 1979 ولقد تنوعت العلاقة بين الحكومة المصرية وإسرائيل وأضحى لها جوانب عديدة اقتصادية وسياسية وثقافية وسياحية، والمهم في هذا المحور هو الجانب السياسي أو الدبلوماسي، وهو الجانب الذي تولته سفارة إسرائيل بالقاهرة، تلك السفارة التي ظلت لفترة وجيزة في أحد الشوارع الجانبية بمنطقة الدقي بالجيزة، أوائل الثمانينيات، ونتيجة للتحركات الشعبية الرافضة لوجودها وأيضاً لاعتبارات أمنية إسرائيلية، تم نقلها إلى الدورين الأخيرين (أعلى العمارة المكونة من 15 طابقاً) في العقار رقم 6 شارع ابن مالك بالجيزة الذي صار اسمه (شارع الشهيد محمد الدرة) تعبيراً من أعضاء المجلس المحلي بالجيزة عن التضامن مع انتفاضة الشعب الفلسطيني من ناحية ورفضاً منهم– كما أعلنوا في قرارهم- لوجود هذه السفارة بحيهم من ناحية أخرى، الأمر الذي سيضطر رجالهم إلى كتابة اسم الشهيد محمد الدرة على كل مراسلاتهم مستقبلاً، ولقد تم اختيار الطابقين الأخيرين لاعتبارات أمنية بالأساس وربما لأسباب أخرى لم يفصح عنها من اختار العقار.

من أسرار التطبيع الثقافي

يمثل التطبيع الثقافي (الذي خصص له باب كامل في الموسوعة) الدعامة الرئيسة لبناء السلام في المنطقة من وجهة النظر الإسرائيلية، وهو لديهم أكثر إقناعا، وأكثر استقرارا من أي ترتيبات أمنية عابرة مثل المناطق المنزوعة السلاح، ووضع جيش أجنبي، وأجهزة الإنذار، وضمانات الدول الكبرى، وهو العامل الحاسم على المدى البعيد، فالصراع في وعي الشعوب قبل أن ينتقل إلى أرض الواقع، والمطلوب من جانب الصهاينة ببساطة، هو نزع العداء من العقل العربي استكمالا لمحاولة نزع السلاح من اليد العربية. وهي المهمة التي يتكفل بها التطبيع السياسي والأمني.

ومن وجهة نظر القائم بالتطبيع الإسرائيلي، فإن كل «عقدة» ولها حلها لدى الإسرائيليين، فإذا كانت مناهج التربية والتعليم السابقة تحض على الكراهية، فإنه يمكن تغييرها لتشيع قيم السلام. وإذا عاقت الحقائق التاريخية تصفية الأحقاد يمكن تجاهلها والتركيز على الجوانب الإيجابية. موقف الإسلام من اليهود أيضاً كان له حل لديهم، فإذا كانت «المفاهيم السلبية» تسود الدين الإسلامي يمكن إزالتها!
هذا وقد كان العنصر الثقافي واحداً من العناصر الأساسية للمفاوضات بين إسرائيل ومصر، وتم تضمينه في اتفاقية الإطار بكامب ديفيد، جنباً إلى جنب مع ترتيبات الأمن وإنهاء المقاطعة وفتح الأسواق المصرية أمام المنتجات الإسرائيلية، ثم جرى تأكيده وتحديد خطوات المفاوضات بشأنه في معاهدة السلام وملحقاتها.

سبل مواجهة التطبيع

نعتقد أن حجم الاختراق الإسرائيلي للمنطقة العربية الذي تم في سنوات التطبيع الأولى ظل محصوراً في نطاق النموذجين المصري والأردني من ناحية، وفي نطاق التعاون غير المباشر عربياً مع بعض المؤسسات البحثية الأميركية من ناحية أخرى، لقد كانت المواجهة بالإجمال ضعيفة وغير منسقة الأدوار رغم النجاحات المحدودة لبعضها كما هو الحال في مصر، وباستعراض نموذج واحد (مبكر جداً) من نماذج المواجهة المصرية المنفردة للاختراق الصهيوني للعقل المصري، يمكننا أن نخلص إلى عدد من الدلالات المهمة قد تفيد في مجال التدعيم العربي لمصر في هذا الجانب، والنموذج الذي نقدمه هنا شارك فيه كاتب هذه السطور شخصياً، وعاصر تجربته وهو نموذج (معرض القاهرة الدولي السابع عشر للكتاب) في1985، فلقد التحم الشعب المصري بمثقفيه ودور النشر الوطنية والأحزاب السياسية وهيئات التدريس بجامعات مصر والنقابات الوطنية، في مواجهة الوجود الإسرائيلي بالمعرض واستطاع أن يحول أرض المعرض لمواجهة حقيقية ترفض التطبيع والاختراق العقلي والعنصرية الثقافية والسياسية.

التطبيع الإخواني

أكدت الحقائق بعد ثورة 25 كانون الثاني أن الإخوان وافقوا على استمرار التطبيع والعلاقات الخاصة مع واشنطن وتل أبيب، خاصة بعد زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركية وليم بيرينز إلى مصر ولقائه قادة الإخوان، ثم لقاء العديد من القيادات السياسية الأميركية بهم بعد الثورة من أمثال (جون كيري– جون ماكين– هيلاري كلينتون وغيرهم) وهو ما يعني أن الحلف الإخواني الأميركي قد أضحى واقعاً فعلياً، واجتاز مرحلة البدايات والتأسيس، ليبقى السؤال: على ماذا تم الاتفاق؟ من المعروف أن أكثر ما تريده واشنطن من مصر هو استمرارها بالدور نفسه الذي كانت تؤديه خارجيا، لجهة ضمان مصالح واشنطن في المنطقة، وضمان مصالح إسرائيل، المتمثلة بالإبقاء على معاهدة السلام كما هي، إضافة إلى استمرار تأمين إسرائيل بالطاقة، والضغط على الفلسطينيين، للدفع باتجاه سلام يوائم إسرائيل وواشنطن على حساب فلسطين التاريخية.
وهو ما يبدو أنه تم الإعداد له مع دخول حركة حماس المعترك السياسي من أوسع أبوابه بعد أن أصبح النظام الرسمي في المنطقة كله بيد المرجعية الأيديولوجية لها «الإخوان». وهنا يبدو أن الإخوان سلموا واشنطن كل ما تريد فعلياً، حيث أعلن الإخوان مواربة حيناً وصراحة حيناً آخر، أنهم لن يلغوا معاهدة كامب ديفيد، مع ترويج فكرة أنهم قد يعيدون النظر بها أو يعرضونها على استفتاء شعبي، وهذا ربما لإسكات الشارع المطالب بإلغاء الاتفاقية، ويتم هذا الكلام مع ما صرح به نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون من أن «السلام بين بلاده ومصر مستمر حيث تلقت بلاده تأكيدات حول نيات جماعة الإخوان المسلمين بالاعتراف باتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، العلاقات بين البلدين لن تتغير كثيراً في المستقبل بسبب التغيير السياسي في مصر»، وفى العام 2011 وبعد الثورة أعلن أحد مرشحي الجماعة في سيناء الدكتور عبد الرحمن الشوربجي أنه موافق على تصدير الغاز إلى إسرائيل مادام ذلك تم بالأسعار العالمية.

في المجال الاقتصادي

توقفت مصانع الكويز عن العمل في بداية شباط 2011 بسبب إغلاق الموانئ وإغلاق سيناء والاضطرابات في شبكة الإنترنت، وتم استئنافها في بدايات آذار التالي، حسبما نشرت صحيفة «معاريف».
وهذا يعني أن التطبيع الصناعي لم يتوقف بعد الثورة، إلا أسابيع قليلة ولأسباب متعلقة بالأوضاع الأمنية بشكل رئيس، وعاد لما كان عليه من دون أي تغيير.
أما التطبيع الزراعي فقد ذكر بعض قيادات وزارة الزراعة المصرية أنه متوقف منذ قيام الثورة، على حين يؤكد بعض العاملين بالوزارة أنه مستمر ولكن من دون غطاء إعلامي، وعموماً لم يذكر جديد في هذا الملف بعد قيام الثورة بخلاف الطماطم الإسرائيلية التي وجدت في الأسواق في الأشهر التالية على خلع حسني مبارك– كما أشرنا من قبل- وإن كان بادياً أن رجال التطبيع كانوا لا يزالون يسيطرون على المناصب القيادية في وزارة الزراعة طوال عام 2011، ولأن التطبيع الزراعي هو من أقدم مجالات التطبيع مع العدو الصهيوني، وأكثرها نشاطاً وتشابكاً، فلا نعتقد أنه توقف بمجرد خلع حسني مبارك، أو تغيير وزير الزراعة لأكثر من مرة، فذلك القطاع مقيد باتفاقات ومشاريع بحثية مشتركة لا يمكن وقفها وتفكيكها إلا بقرار سياسي واضح وحازم، وهذا ما لم يحدث في المرحلة التالية لثورة كانون الثاني2011 إلا أنه قد صدرت بعض القرارات للتخفيف من حدة التطبيع، أو للتعاطي مع الرأي العام الغاضب، كما حدث حين قرر وزير الزراعة المصري وقف تصدير سعف النخيل للكيان الصهيوني في أعقاب الاعتداءات الصهيونية على الحدود المصرية في آب2011م، ولكن تبقى المزارع المشتركة والشركات التي تستورد البذور والمبيدات الإسرائيلية والخبراء الإسرائيليون دليلاً ملموساً على استمرار التطبيع الزراعي، حتى لو خفت درجته وفعالياته!
هذه المعلومات والحقائق وغيرها وردت كلها بعد قيام ثورة كانون الثاني، وبدأت تظهر نتائجها في عام 2014 خاصة مع تراجع حكم (الإخوان) الذين كانت واشنطن وتل أبيب قد نجحتا في ترويضهم ليقبلوا بكامب ديفيد ومعاهدة السلام بل يكونون وسطاء مع (حماس) عام 2012 بعد العدوان الأول على غزة، إلا أن مصر مع قيادة المشير عبد الفتاح السيسي (2014) مفتوحة جبهتها السياسية والعسكرية مع إسرائيل على احتمالات عدة.

إن المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ولكنه حتماً لن يعود إلى الوراء ثانية، ولن تستقر الأوضاع مع إسرائيل مثلما كانت في العهود السابقة، فلقد استيقظت روح المقاومة الوطنية والقومية المصرية مع ثورتي كانون الثاني 2011 و30/6/2013.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن