قضايا وآراء

ترامب على خطا بلفور

| يوسف جاد الحق

قد لا يفيدنا كثيراً تسليط الضوء على ضلوع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خدمة الصهيونية إلى حد الهوس، ولكن على حسابنا، غير أن كشف دور الرجل وتأكيده من الضرورة بمكان في معركتنا مع العدو وسائر مناصريه، أيّاً كانوا.
هي ذاتها سياسة الغرب حيال الشرق منذ القديم حتى يومنا الراهن، عداء غربي مستحكم ومتجذر على أمة العرب خاصة، والمشرق الإسلامي مثل إيران عامة، مع اختلاف في الأسلوب والممارسة بين دولة وأخرى من دول ذلك الغرب، وتعبيراً عن هذه السياسة المعتمدة لديهم، شهدت ديارنا ضروباً من العدوان والغزو والاستعمار قديمه وحديثه، امتدت على مدى حقبة مئة السنة الأخيرة.
تزعمت ذلك التوجه في البدايات بريطانيا التي عرفت سياستها بالنفاق والمراوغة، إلى جانب عامل القوة التي كانت تملكها آنذاك، ثم ورثتها أو عملت على إزاحتها عنها لكي تحل مكانها الولايات المتحدة الأميركية التي عرفت سياستها بالغطرسة والتسلط والفجاجة والزهو بامتلاك القوة الغاشمة المدمرة بمنطق الكاوبوي بصورته الشهيرة.
من هنا دأبت الدولتان المذكورتان على التصرف حيال أوطان الآخرين بمنطق «المالك» لتلك الأوطان أرضاً وشعباً!
لسوء الطالع ولعوامل أخرى ليس هنا مكان التعرض لها، كانت بلادنا فلسطين، الحالة النموذجية التي تجسدت فيها تلك السياسات الخرقاء.
نذكر جميعاً كيف أن وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور عمد، إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، إلى منح اليهود الصهاينة «وطناً قومياً» في فلسطين، توطئة لاتخاذها فيما بعد «دولة» لهم طالما حلموا بها وسعوا إليها في شتاتهم، وغني عن القول إن بلفور هذا أقدم على صنيعه الإجرامي ذاك الذي أفضى إلى النكبة عام 1948 وإلى سائر ما يعيشه الإقليم مذ ذاك وحتى اليوم، بسبب ما انطوى عليه من عداء تقليدي للعرب كما أسلفنا، هذا من جهة، ثم إرضاء لبني إسرائيل ورداً لفضل آل روتشيلد اليهود على بريطانيا لإسهامها في تمويل حربها تلك.
إذا كان بلفور كبريطاني، عرف بالدهاء والمراوغة واللعب على الألفاظ في الصياغة القانونية لنص سياسي، بحيث يحمل النص معاني عديدة تحتمل التأويل على أكثر من وجه ليفسرها كل من الأطراف المعنية وفق هواه وما تقتضيه مصلحته، وإذا كانت هذه الحال مع بريطانيا فها هو ذا الرئيس الاميركي دونالد ترامب يطلع على العالم بالأسلوب الأميركي، المختلف عن أخيه البريطاني، متميزاً بالعنجهية والغطرسة والفرض التسلطي الذي يعتمد منطق القوة الغاشمة، فيبادر إلى منح اليهود الصهاينة، ما لا يملك هو أيضاً: القدس عاصمة أبدية لـ«دولة» بني إسرائيل، مكملاً بذلك الدور البريطاني، منذ شهرين، ثم يتبع ذلك اليوم بإعلانه نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وتحديداً في منتصف شهر أيار من هذا العام، الذي يوافق العام السبعين لقيام ما سمي دولة إسرائيل على أرضنا الفلسطينية.
لكأن ترامب يقدم قدسنا وفلسطيننا هدية مجانية سخية في ذكرى اغتصابها منهم، وفي مناسبة مأتمنا بفقدنا لبلادنا على أيدي عصاباتهم الصهيونية الإرهابية، شتيرن وهاجاناه وتسفي ليؤمي وغيرها، هدية المستر ترامب إلى أصدقائه الصهاينة يقدمها بفخر واعتزاز، مغلفة بدماء مئات الآلاف من شهداء فلسطين والخلَّص العرب، منذ الشهيد عز الدين القسام وحتى شهيد الأمس ياسين عمر السواديح.
مئة عام منذ بلفور بالتمام والكمال! ولم يكترث ترامب، بطبيعة الحال، لرد عربي أجمعت عليه شعوب الأمة العربية، بمسلميها ومسيحييها، بل إن معظم شعوب العالم المسيحي أيضاً اعترض واستنكر صنيع هذا الرجل، إرضاء للصهاينة واستجداء لأصواتهم على حساب المقدسات المسيحية أيضاً، في موطن السيد المسيح نفسه عليه السلام، في الناصرة والقدس وبيت لحم وسائر الديار الفلسطينية المقدسة.
ترى: هل لنا أن ننتظر هبة، بل قل انتفاضة عارمة تجتاح الإقليم كله، دعماً لحلف المقاومة، ولوقف هذا العدوان السافر وإعادة الحقوق إلى نصابها وأصحابها؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية لإفشال مخطط المتاجرين بدماء الشعوب من صهاينة الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين واليهود، الذين آخر ما بدا للعالم كله من ظاهرة العداء لسورية خاصة وللأمة العربية عامة ما شهده على الفضائيات بالأمس القريب في مجلس الأمن في 24 الماضي، من مواقف مندوبي الدول التي سبقت الإشارة إليها من حقد مستحكم على سورية والعرب في تعابيرهم وألفاظهم المتدنية المستوى، ولاسيما مندوبة الولايات المتحدة نيكي هيلي المعبأة حقداً وكراهية ممقوتة لا تليق بممثلة دولة تزعم أنها الأكبر والأعظم في عالم اليوم.
ترامب إذاً يسيرُ حثيثاً على خطا بلفور غير مبالٍ بالعواقب والتبعات والتداعيات لما سوف يسفر عنه صنيعه الإجرامي المقيت في قادم الأيام، الذي لن يقل أذى وإجراماً عما حدث جراء وعد بلفور حتى الآن، ترامب اليوم أسوأ خلف لأسوأ سلف، ولعل هذا يذكرنا بمقولة الشاعر البريطاني روديار كبلينج المتوفى في بدايات القرن العشرين: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا».
كما يذكرنا هنا بطوني بلير خليفة بلفور ومكميلان وتشرشل وأبتولي إيدن، عراب حرب العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956، وآرنست بيفن الذي سلم فلسطين لليهود في 15 أيار 1948 تنفيذاً لمخطط تقسيمها في تشرين الثاني 1947 بانسحاب قوات الانتداب البريطاني منها.
لكن، وأخيراً أليس هنالك من يستحق اللوم والمساءلة في جانبنا الفلسطيني، في غزة والضفة؟ نسأل هؤلاء، من ضمن أسئلة كثيرة من مفرزات «أوسلو» العتيدة، أليست ممارساتكم وتنازلاتكم واستهاناتكم مما يجعل أعداءنا القدامى والمعاصرين يستهترون بقضيتنا وبما يصدر عنا من ردود فعل تجاه الظلم والعدوان الواقع علينا أرضاً وشعباً؟
ألا نسأل هؤلاء، على سبيل المثال، ما الذي يبهجكم أو يجبركم على إسناد ذلك المنصب المرموق والخطير للسيد توني بلير ممثل لما يسمى «الرباعية الأوروبية»؟ هل نسيتم أم إنكم تجاهلتم من هذا؟ ألم يكن الرجل عراب حرب جورج دبليو بوش وشريكه في جرائمه غير المسبوقة على العراق؟ ألم يكن هو من توعد العراق بإعادته بضعة قرون إلى الوراء، هذا فضلاً عن إسهام جنوده البريطانيين مع جنود بوش في تدمير العراق وقتل وتشريد نصف شعبه؟
أما قصة الجنرال دايتون الأميركي المنسق الأمني بين سلطة أوسلو وكيان العدو الإسرائيلي، فهو بحكم هذه الوظيفة يسهم مع السلطة في منع قيام انتفاضة، بل منع اعتقال من يسعى، أو يفكر بالثورة على الاحتلال، وما أكثر الحالات التي قتل فيها شبان من المقاومين والمنتفضين بفضل إشرافه وتوجيهاته.
أسئلة كثيرة محيرة ومثيرة للعجب والاستغراب، غير أننا في انتظار الصباح لمواصلة الكلام المباح في لقاء آخر قريب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن