ثقافة وفن

أيا أمّ… لا شيء أمام حبك الذي تهبين … إليك يسعى الوليد لينهل حب أرض وانتماء

| إسماعيل مروة

أيتها القادرة على المنح والعطاء.. من مشيمتك وبمشيئتك يتكون الوليد الذي يحملك عمراً وأعماراً
فلا يغادرك ولا تغادرين.. لا تملين ولا يملك..
قد لا يراك وتفارقين قبل أن يكتمل.. وفي التماع عينيه تسكنين
قد يقسو.. وحين يسمع صوت دمعك المتحدر يتحول إلى كتلة من حنان..
من رحمك تجودين
وفيه يعرّش حباً وأملاً
ومنك يمتص الحب.. وقد يلونه بحقد وكره
منك الحب الذي يعجز حقد الكون عن النّيل منه
من لثغتك التي لم تعرف معلماً يحفظ أبجديته
من مكاغاتك العذبة يبدأ ترانيمه
من مفرداتك قد يكون شاعراً عذباً يمنح الكون جمالاً فريداً
بيدك المرتعشة السمراء يمسك ريشته ليرسم عالماً مختلفاً
من تعليمك قد يوجد علماً يرسم صورة جديدة للحياة
منك وحدك يأتي
ولك وحدك ينتمي
أيا أمّ..
ماذا تعني الشهور التسعة؟ وماذا يعني الرضاع؟
لا شيء أمام روحك التي تمنحين
لا شيء أمام حبك الذي تهبين
يخرج الوليد منك ليعود إليك.. كيفما كان يعود
كيفما كان تستقبلين.. مهما قسا تصفحين
ولو كنت هرمة عندما يجوع ترضعين.. ولا شراب غير الحب..
ويل لمن لا ينهل من أمه ولو في الحلم..
من مشيمتك وبمشيئتك يدرج سالماً سليماً
برئتيك يحيا
بعينيك يرى
بقلبك ينبض
بيديك يحب
وبقامتك يتعملق ليصل إلى مدى لا يمكن أن يصل إليه لولاك
ضمّي الوليد إلى صدرك يا أمي
زيدي من زمن الاحتضان إلى ما لا نهاية
على زندك أمان لا يشعره الوليد ولو كان جداً
في ثنايا صدرك دفء يغمره لعشرة آلاف سنة
عشرة آلاف سنة والوليد يتمرغ منتظراً
وعشرة آلاف سنة تمضي بلمحة من بريق عينيك، ومن طيبتك
أعمار تمضي أيا أم وأنت حاضرة لا تغيبين
وحدك لا تموتين.. لا يطولك هرم أو شيخوخة
تهدل الجبين يجعلك أكثر قدرة وقوة وجمالاً
تجاعيد يديك تغمر صنعك بعطر أمومة لا يقدر التخيل على الوصول إليه
انحناءة ظهرك تحولك إلى رحم لشيخوخة الوليد
اصنعي خبز الصاج لوليدك فقد اشتاق لعرَق يديك..
اصنعي قهوة الصباح وتذوقيها لعلّ ريقك يشفي ما علق به من مرض
امسحي بأصابعك المرتجفة عينيه المرهقتين وأعيدي النور إليهما..
ابسمي يا أم…
الكون غمره الدمار والقتل والرماد
إنه اشتاق لطهر روحك التي ما عرفت غير الطهر
ابتسامتك وحدها تعيد للعالم ألقه..
الكون أمومة وخصب ورحم كرم وانعتاق..
فتحتِ يديك وأطلقت الوليد ليعابث المدينة والحياة..
صعد مئذنة الشيخ محيي الدين ونادى على دمشق
وضرب ناقوس السيدة العذراء فأشجى العابدين
وحين عاد إليك كان مزهواً
لم تكوني سعيدة فرحته
يومها قلتِ له: ألم أعلمك أن تنادي على الحب؟
نادِ يا ولدي على الحب في كل زاوية وزاروب.. وحده أعطيتك
الحب لا يحتاج مكاناً يا ولدي… ترنم به.. نادِ عليه في كل لحظة..
لم أغادرك يا ولدي
لن أغادرك يا ولدي
وحين أحتجب عنك أترك لأمومة
فمن أمومة إلى أمومة تقضي حياتك بدعائي لك..
كن فداء وافتداء..
واحظ بالخلد والخلود..
وحده الحب يا ولدي يجعلك أنت
وحده يجعلني أضمك إليّ وأباهي بك
أردتك رسولاً للحب فكن محموداً
وحده الحب لا يتلوث بالدم والدمار والقتل
رحم أمومتي يا ولدي لا يعرف غير الحب..
نادِ يا ولدي لوجه هو وطنك الباقي على الزمن
توجه إلى عينين مرهقتين فهما خطا البداية والنهاية
لن تجوع يا ولدي فقد أعطيتك لأزمان متطاولة
وحبل مشيمتي يرتبط بك ويمدّك بغذاء لآلاف السنين
لن تعرى يا ولدي فيداي تطوقانك بالدفء..
لن يقدر أحد على جذبك من عليائك حيث وضعتك
وأنت وحدك إن أردت ستجوع وتعرى وتصبح ذليلاً..
سآتي إليك يا ولدي.. سأكون معك..
أيا أم..
أشتاقك طهراً ونقاء وسلاماً وجمالاً
في كل زاوية ركام
في كل روح دمار
سماؤنا رماد
ماؤنا دم
أشتاق أن أنعتق من كل أسر لأكون كما أردت
أحتجبتِ يا أمي
جهزي لي عند قدميك الطاهرتين مكاناً
هناك عند حرف من قدمك استعذبه
رتبي ذرات من تراب
المسيها بيديك الحانيتين لأسند رأسي
لأخلص وأتخلص من رماد ودم ودمار
أيا أم..
أيا وطناً يغادره الوليد ولا يرجو مغادرته
يغادره باكياً مفتقداً كل صدق وحب
ويعود إليه كهفاً ومعبداً لا تصل إلى روحه عناكب
ولا تطاوله قامات كبرياء..
هناك يا أم على مصطبة من طين تجلسين..
تنظرين من خلف الغمام إلى القادم من بعيد بعيد
ترصّين عينيك كصقر لا يسمح لشيء بالاقتراب من صغاره
ترين كل شيء، وتتظاهرين بالعجز
تغادرين لتوهمي الوليد أنه صار حراً
تحتجبين لتتركي مساحة من وطن لمن خرج من روحك
تلفين تنورتك على جسدك الطهور
تنتشر رائحة خبز التنور من تنورتك
وجسدك يعطي رائحة الورد الجوري والياسمين
تلتحفين غمامة بيضاء وتسافرين على بساط أبيض
وتغمرين الأرض ببياضك.. ولا بياض سوى ما تجودين به
في كل يوم تتجلين على الحياة، تطلين من عليائك وتعطرين الكون
في كل عام نلوذ بك وقد أنهكتنا التكاليف، فنبحث عن حنان أنت هو..
ونبحث عن صدق وطهر ووطن لم يكن لولاك ولولا تجليك
فإلى سموك لا نسمو
والأيام بك تتعطر بحثاً عن ألق الوجود
لا يكون بغيرك فلا تتأخري
ولا يهمي بغير عطرك وروحك وأنت الخير فلا تبخلي
ها هي الأوطان تبحث عن أمومتك
إليك كل الورود ولا تصل إلى وردك
وكل الطيوب ولا تقترب من ريقك
إليك يسعى الوليد.. وكل وليد
وعند قدميك يجثو على ركبته
يطلب صفحاً ومغفرة على وطن لم يحسن رعايته وحبه
وعلى إنسان بدل أن يسمو به سفح دمه
وعلى ورد لم يخرج منه رائحته، بل داسه بقدمين قذرتين..
وعلى مئذنة وناقوس استعاض عن النداء للحب عليهما

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن