قضايا وآراء

أميركا دبلوماسية الحروب أم نفخ العضلات؟

| محمد نادر العمري

كثرت في الآونة الأخيرة المقاربات والتحليلات حول دوافع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون عبر تغريدة له على «تويتر»، في سلوك يحمل الكثير من الاستهزاء بمكانة أكبر دول العالم، ليغدو بذلك تيلرسون وبإجماع النخب السياسية كافة الضحية الأبرز لعبثية ترامب الفوضوية التي سادت البيت الأبيض منذ تنصيبه رئيساً في 20 كانون الثاني 2017، تخللها إقالات واستقالات لمسؤولي الصف الأول من الإدارة الترامبية على غرار المستشار الإستراتيجي ستيف باتون، ومستشار الأمن القومي مايكل فلين، ووزير الصحة والناطق باسم البيت الأبيض.
تصريح ترامب الذي اعتبر مايك بومبيو مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية هو الشخص الأنسب لوزارة الخارجية منعطف حاسم في السياسة الأميركية، ينصب في سياق التسليم الفعلي لملفي السياسة الخارجية والأمن القومي لصقور المخابرات المركزية وتسلطهم، والتي من المتوقع استكمالها بترقية «جينا هاسبيل» التي عينت مديرة للمخابرات مؤقتاً بمنصب مستشار الأمن القومي التي يشغلها «هربرت ماكماستر» الهدف الثاني لترامب في جملة تغييراته.
من حيث المبدأ تبدو هذه التغييرات طبيعية في أي نظام سياسي من ناحية الشكل، ولكن حساسيتها وأهميتها من حيث المضمون فيما يتعلق بواشنطن تكمن بناحية تغيير سياستها من التعاطي بأساليب دبلوماسية تجاه الملفات الحساسة والمعقدة، إلى التشدد والتصلب والجنوح لعقلية الاستناد للقوة أو التهديد بها وإعطاء خصومها إيحاءات ومؤشرات جدية بأنها بشكل دائم على استعداد وجاهزية لخوض الحروب بغية تنفيذ أهدافها وأجنداتها، والسعي كذلك إلى تفرقة جبهة خصومها والمنافسين لها على الساحة الدولية حرصاً على إظهار عظمتها وهيمنتها على قمة النظام الدولي وفق رؤية منظر السياسة الخارجية الأميركية وعرابها هنري كسنجر، الذي تبدو لمساته واضحة في التغييرات الأخيرة للبيت الأبيض.
من حيث التوقيت والتوجه فإن هذه التغييرات التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية ترافقت مع اقتراب موعد عدد من الاستحقاقات المهمة تتعلق بمسائل وملفات على درجة عالية من الأهمية ولها انعكاسات قد تشكل توتراً «وتصعيداً» في النظام الدولي وتأثر به من حيث طبيعة العلاقات التي يشهدها وسيرورة تحالفاته:
* استبق الرئيس الأميركي دونالد ترامب استقباله ولي العهد السعودي بأيام لتقديم هدية لدول الخليج وإرضاء غرورها وتلبية بعض مطالبها بعزل تيلرسون الذي لم يلب طموحات السعودية والإمارات رغم كل الإغراءات التي قدمت له من عواصم هذه الدول بإصراره على تبرئة قطر من تهمة الإرهاب، بل ذهب أبعد من ذلك عندما حمل دول التحالف المقاطعة لقطر سبب تفاقم أزمة الخليج معارضاً أي خيار عسكري لحل الأزمة.
* عما يتعلق بملف كوريا الشمالية فله بعدان الأول هو إستراتيجي يستهدف كلاً من الصين وروسيا في حال نجاح المسعى الأميركي، والثاني تقني فني يتصل بتقنيات عسكرية وأمنية تتعلق بإدراك قدرات أسلحة الدمار الشامل التي تسعى بيونغ يانع لامتلاكها «وفق المزاعم الأميركية» وهذا الأمر يتطلب جولات مارتونية ومفاوضاً دبلوماسياً بقدرات عسكرية تحرره من مشاورة الخبراء والاختصاصيين أثناء المفاوضات ويتمتع بحنكة التهديد نحو بدائل عسكرية في حال جنوح المنحى التفاوضي عن مساره، فضلاً عن العلاقات الشخصية المتينة التي تربط بومبيو مع مستشار الأمن القومي لكوريا الجنوبية ورئيس مخابراتها محوري التفاوض مع كوريا الشمالية، في محاولة لحد من تطلعات وتدخل نظرائهم الروس والصينيين وتفادي تكرار النموذج الإيراني بتخفيف القدرات الصاروخية لبيونغ يانغ.
* لا يعتبر ترامب وحده صاحب مواقف متشددة تجاه الملف النووي الإيراني في أميركا، بل يشاركه في موقفه هذا عدد من صقور إدارته وفي مقدمتهم وزير خارجيته الجديد بومبيو، الذي كان دائماً من حيث موقعه كمدير للاستخبارات المركزية معارضاً قوياً ورافضاً للاتفاق مع إيران، لأنه وفق وصفه اعتبر هذا الاتفاق تحريراً لنفوذ إيران في المنطقة وزاد من قدرتها في تطوير صواريخها البالستية فضلاً عن تشاركهم العداء للإسلام والمسلمين.
* أما العلاقة مع أوروبا ومع حلف الناتو فسيأخذ مساراً أكثر دراماتيكية من حيث الانشراخ في العلاقة باستثناء الدرع الصاروخية ونشرها ضمن الدول المجاورة لروسيا بهدف احتوائها، فأوروبا المنزعجة من وصول رئيس شعبوي للبيت البيضوي كانت تنظر لريكس تيلرسون على أنه أكثر النخب السياسية في إدارة ترامب حكمة وآخرهم، فهو كان يؤيد الموقف الأوروبي في الحفاظ على الاتفاق النووي وتفضيله خيار المزيد من العقوبات، خشية الارتدادات الناجمة عن انسحاب واشنطن من الاتفاق سواء في انهزاز الصورة الأميركية أمام العالم أم ارتفاع وتيرة حصول صدام في الشرق الأوسط وبخاصة بعد خنوع ترامب لمؤسسات الدولة العميقة ومهادنته لها، والذهاب نحو اللانهاية في تحقيق طموح الكيان الصهيوني عبر «صفقة القرن» التي حصرت بيد صهر ترامب جاريد كوشنر وإبعاد تيلرسون عن تفاصيلها.
* الملف السوري وضمن دائرة الاشتباك والصراع مع الجانب الروسي، يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية التي تفقد شيئاً فشيئاً خياراتها ووزنها وتأثيرها في المشهد السوري لم يبق أمامها سوى التهديد بالقوة أو اللجوء لاستعمالها، وهذا يتطلب دبلوماسية العضلات أو دبلوماسية الحروب تعتمد على صواريخ كروز لفرض رؤيتها ولا سيما في صراع يشكل رأس حربة للصراع القائم بين الناتو وروسيا.
الشرق الأوسط بما يشكله من صمام أمان أو انفجار هو للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة ليس في انتظار الحروب التي تمهد لها أميركا ودبلوماسيتها اليمينية المتمثلة بهيمنة رجال العسكر والأمن على التحكم بمفاعيل قراراتها، بعد تبلور تحالف المقاومة وعودة الدب الروسي بتوازنه النووي الرادع، أميركا تقرع طبول الحروب من بوابة دبلوماسيتها فهل ستتمكن من عزف سيمفونية النصر أم إنها دبلوماسية نفخ العضلات فقط؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن