ثقافة وفن

لايوجد في الأشعة سوى قدرة على تحريض الشعور … لؤي كيالي وسكينة الروح في ألوان تظهر روحه

| كرم النظامي

قامت جهود عدة لدراسة تأثير الألوان في سايكولوجيا الإنسان ومزاجه ودور اللون في تحليل نفسية ومشاعر وأحاسيس الفنان التشكيلي خاصة، وذلك من خلال قراءة عمله الفني وسبر عوالمه الداخلية وتقلباتها وأنماطه السلوكية باعتبار الألوان أداة التعبير الأساسية لدى الفنان ووسيلته المثلى في تظهير لواعج وخلجات مشاعره وتجسيد فكرته في اللوحة..
واللون لغةً هو الصفة التي تطلق على الجسم المرئي من سواد أو بياض أو غيرهما من الألوان، وعند علماء الطبيعة هو ظاهرة فيزيائية ناجمة عن تحلل اللون الأبيض إلى عدة ألوان بفعل ظاهرة الضوء (ألوان الطيف).. أي إنه أثر فسيولوجي يتحلل في شبكية العين حيث تعمل الخلايا المخروطية على القيام بتحليل ثلاثي للون أكان ناتجاً عن المادة الصبغية الملوّنة أم عن الطيف. ويرى العلماء أن اللون غير موجود بطبيعته وإنما هو مجرد إحساس متمركز في الدماغ والجهاز العصبي للكائنات الحية، الأمر الذي يفسر اختلاف الرؤية اللونية من كائن لآخر أو غيابها لدى كائنات أخرى وبما يسمى علمياً (عمى الألوان)..

يرى إسحاق نيوتن أن «أشعة الضوء ليست ملوّنة ولا يوجد في الأشعة سوى طاقة محددة وقدرة على تحريض الشعور بهذا اللون أو ذاك.. ومن هنا فإن الضوء هو منبع الإحساس اللوني»..
ويرى علماء النفس اللوني (وهو من الميادين الحديثة لعلم النفس) أن الألوان ترتبط بالحالة الوجدانية والقيم والعادات ولذلك تختلف دلالاتها الروحية من مجتمع لآخر، والنفسية من فرد لآخر، وتصبح رموزاً في العديد من الثقافات.. إلا أنه ثمة إجماع على وجود قواسم ومفاهيم مشتركة للدلالات اللونية وتأثيراتها في المشاعر والمزاج والأنماط السلوكية، وأكثر ما يتبدى ذلك عند الفنانين التشكيليين حيث لا يمكن فصل عملهم الفني عن سلوكهم النفسي الذي يظهره اللون كأداة تعبير تعكس حقيقة هذا السلوك وتمايزه، ودلالةٍ على الصحة النفسية لدى الفنان وتقلباتها..
وقبل الإضاءة على تجربة فنانين مهمين في تاريخ الفن التشكيلي العالمي وهما الفنان الهولندي فنسنت فان كوخ والفنان السوري لؤي كيالي من حيث فاعلية اللون في إظهار تقلبات مزاجهما وحالتهما النفسية عبر مراحل سلوكهما الإبداعي، لابد من إشارة سريعة لعلاقة اللون بالحالة الوجدانية والنفسية عند الإنسان بشكل عام..
توصل علماء النفس اللوني إلى أن هناك ما يسمى المنطقة الحمراء وهي المنطقة الدافئة التي تحتوي على اللون الأحمر والأصفر والبرتقالي، والمنطقة الزرقاء الباردة التي تحتوي اللون الأزرق والأخضر والبنفسجي..
• فاللون الأحمر يعبر عن الدفء والحب والإثارة والعنف.. وهو من أقدم الألوان ويعتبر صاحب أطول موجة ضوئية في ألوان الطيف..
• والأزرق يعبر عن الاستقرار والثقة بالنفس إضافة للمشاعر الباردة كالعزلة والحزن..
• أما الأصفر فيعبر عن التفاؤل والفرح والإبداع إضافة للشعور بالأمان..
• واللون الأخضر يعبر عن التوازن النفسي والطمأنينة..
• والأسود يعبر عن الكآبة والحزن والموت..
• والأبيض، وهو أصل الألوان في الطبيعة، فيعبر عن الصفاء والنظافة والهدوء والأمل..
وهناك بالطبع ألوان فرعية وألوان ناجمة عن مزج الألوان الرئيسية كالبنفسجي مثلاً الذي يدلل على الشعور بالثقة والرضا والحكمة الروحانية.. والبرتقالي الذي يعني الحماس والحيوية، والوردي الذي يشير إلى الانسجام والعواطف الهادئة..
• دراسة تطبيقية لدلالات الألوان وتأثيراتها في الحالة النفسية وبالتالي الإبداعية لبعض أعمال الفنانين العالميين فان كوخ ولؤي كيالي باعتبارها متشابهين إلى حد ما في حالة القلق الوجودي والاغتراب المجتمعي وتجاهل مدعي الفن والنقاد لإبداعهما ومعاناتهما بسبب ذلك والنهاية المأسوية لكليهما:

فنسنت فان كوخ. هولندا 1853-1890
في المرحلة القاتمة من حياته وهي مرحلة البؤس والشقاء ومرض العصاب، سادت في لوحاته الألوان القاتمة.. الرمادي والأسود والبني الغامق كلوحة المنزل القديم والفلاحين الخمسة آكلي البطاطا وهي اللوحة الشهيرة التي كمد وخمد فيها الضوء الشحيح ليكشف خمسة فلاحين متعبين يأكلون البطاطا في وجبة عشاء.. لوحة يسودها الوجوم والبؤس، ولكن في مرحلة العمل مع أخيه ثيو في باريس اختفت الألوان الحزينة وحلت محلها الألوان الزاهية الوضاءة كلوحة عباد الشمس، وازدادت اشراقاً وتوهجاً في مرحلة عيشه في بلدة آرل بمقاطعة بروفانس جنوب فرنسا حيث الشمس مشرقة طول النهار والألوان القوية الساطعة واقترب فيها من أعمال الانطباعيين كلوحة جسر كاردازيل ولوحة حقل قمح وطائر.. وكان يقول لأخيه ثيو: «إنني بدلاً من نقل الطبيعة بأمانة استخدمت الألوان بحرية من دون قيد كي اعبر عن خلجات نفسي تعبيراً قوياً»..
وتألق هنا في رسم الطبيعة حيث كانت ألوانه تتدفق بغزارة وقوة مع تدفق الضوء واحتوائه لكامل المشهد.. فكان حين يرسم الشمس إنما يحاول الوصول إلى الإحساس بالدفء والتوهج!
وفي هذه المرحلة تفوق على أستاذه ديلاكروا، وتجلى ذلك في لوحة قوارب على الساحل، وهي اللوحة التي طبعت أسلوبه اللوني بطريقة خاصة متفردة تميز بها لاحقاً في جميع أعماله الانطباعية..
إلا أنه عاد وانتكس في مرحلة دخوله المصح العقلي لتختفي إلى الأبد ألوان الحياة ولتحل محلها ألوان الموت والرماديات والأزرق القاتم وألوان العنف الحارة، وكان في هذه المرحلة التي امتدت عاماً، يخرج إلى الطبيعة ويسكب ألوان روحه المعذبة في فضاءات لوحاته التي أنجزها بغزارة وكانت موسومة بالألوان الكئيبة برمتها.. وما لبث أن قضى انتحاراً في أقسى تراجيديا عاشها فنان شغل ولا يزال يشغل نقاد الفن وعلماء النفس وتجار البورصة الفنية وهو الذي مات ولم يبع سوى لوحة واحدة خلال عمره القصير!

لؤي كيالي- سورية 1934-1978
سمي بفنان الحزن الجميل.. ورسام الألم الصامت.. ومبدع الحزن الهادئ..
في شبابه وهو ابن مجتمع حلبي مترف تألقت وازدهت ألوان لوحات البورتريه التي أبدع فيها.. ألوان الصفاء والرخاء والورديات.. وأشرقت المناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة بألوانها المضيئة وهذا ما كان يدلل على روح تتمتع بالسكينة والهدوء والاستقرار النفسي.. ولكن حين أخذ يقترب من عامة الناس ويرصد حياتهم وشقاءهم بدأت تتسلل إلى لوحاته الألوان الشاحبة والرمادية والقاتمة في خدمة الفكرة التي يطرحها وتجلى ذلك في أكثر من لوحة رسمها عن ماسحي الأحذية وصانعي الشباك والقوارب ولوحات الأمومة والطفولة الشقية، فاقترب كثيراً من الواقعية مكتشفاً الوجه الآخر القاسي للحياة، وتوغل في الهم السياسي والقضية الفلسطينية فرسم بألوان قاتمة عدة لوحات تناول فيها مواضيع التشرد والحزن والإحباط.
وتجلت الصورة أكثر في لوحاته بمعرض (في سبيل القضية) سنة 1967بعد نكسة حزيران التي استخدم فيها أقلام الفحم.. لكن المعرض هاجمته فئة من مدعي الفن والنقاد في الصحافة فأحبط وأصيب باكتئاب شديد فمزق لوحات معرضه وانسحب من الحياة الفنية لفترة صار يُدرس فيها في كلية الفنون بدمشق لغاية عام 1970 واستقرت حالته النفسية ولكن سرعان ما انتكس بعد وفاة والده فهجر الرسم وانحسرت أمواج اندفاعاته في الإبداع وانسحب من الحياة الاجتماعية عدا مشاركات طفيفة في معارض الدولة وسافر في عام 1976مع الفنان فاتح المدرس إلى كندا للمشاركة في معرض هناك ثم إلى ايطاليا عام 1978بقصد الإقامة لكنه سرعان ما عاد مع روحه القلقة إلى حلب ليعتزل الناس كلياً من دون أي رسم ولا مشاركات فعصف به الاكتئاب ومات في دمشق محترقاً عام 1978، ليسدل الستار على فنان رقيق شفيف هجر حياة النعيم واندمج في حياة الناس والعامة وحمل الهم الوطني والقومي تاركاً لوحات خالدة تدلل بشدة بألوانها المتضاربة على وتيرة حالته النفسية ما بين المنطقة الحمراء والمنطقة الزرقاء وسيطرة الرمادي والأسود وهما لونا العزلة والحزن..
اللون في الفن التشكيلي ليس مجرد أصباغ يفرشها الفنان بريشته وأدواته على سطح اللوحة، وإنما هو حاضنة لروحه وفضاء لحلمه وتصعيد لهواجسه ورؤاه ومرآة تعكس قلقه واضطراباته وأداة تعبير قوية ومباشرة تدلل على سلوكيته وتوازنه الوجودي والنفسي!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن