ثقافة وفن

رحلة الموت … أوروبا والكنز المفقود … الهارب إلى الخلوة كي يتحدث مع نفسه بأفكاره

| السويد: وسام حمود

الهجرة إلى الغرب البعيد، ليست بأمر غير مألوف، فسجلات التاريخ مليئة بأنماط وأنواع مختلفة لهذا المصطلح الموجع، الذي لا يدرك نكهة مراره إلا من خاض غمارها..
الحرب في سورية، أطبقت على أنفاس أهلها، فجنح الكثير من أولادها باتجاه الهروب من الموت، الذي تعددت أشكاله، وألوانه، وألعن لون فيها، الفقر الذي أفرزته طاحونة الحرب…
كغيرنا من الناس خوفنا مشترك من أزيز الرصاص، وصوت القنابل التي تجعلك ترتجف كما طفل يُحملُ عليه كرباج، بل خوفنا على أطفالنا كان المحرك الأساس لاتخاذ قرار لم نوقن حجم الثمن، الذي سنسطره في صفحات عمرنا…

بداية الرحلة..

يقال… البدايات دائماً جميلة، ولكن هنا نقول البداية مقلقة، يكسوها ضباب مخيف ليس لأنك في داخله فقط بل لأن كثافته تجعلك غير قادر على التكهن متى ينقض عليك وحش بشري يدعى مهرب ليسرق منك ما تحمله في جعبتك من مال استلفته من عشرة أشخاص كي تصل لبر الأمان، ووعدك لهم أني حينما أرتب أموري سأعيده لكم مع باقة شكر… بعد رحلة قصيرة تصل إلى تركيا وأنت تعد نفسك بأن تدلعها بكل ما للكلمة من معنى نتيجة القهر الذي تجرعته، فأنت لن تقبل أن تقيم مع عشرة أشخاص بغرفة واحدة وأنت الهارب إلى الخلوة كي تتحدث مع نفسك لتشاطرك أفكارك، لتوبخك مرة، ولتخفف عنك تارة أخرى، ولكن حين تصل تفاجأ بأن لا مكان تخلد إليه، وأن كل الفنادق في إزمير التركية مكتظة بالهاربين لدرجة تقول في نفسك.. أهلا بك في إزمير السورية.. الفنادق في أزمير طوابيرها كما طوابير الخبز والماء تذكرك فورا في حرب الثمانينيات في بيروت، والمناطق المنكوبة في سورية حتى أصحاب الفنادق لم يدخروا مكانا إلا وزرعوا فيه الهاربين من الموت حتى الحدائق تم استثمارها، فتوزعوا على أرضها بفراشهم بطريقة مرتبة يخيل إليك أن سجانا خبيرا قام بتركيبهم كما قطع الدومينو، أو البزل..
مر نهار كامل ومع بزوغ الفجر وفقنا في غرفة صغيرة أشبه ما تكون بصندوق الدمى، لا بأس كلها يومان ونغادر مجرد محطة، أطلت الشمس الصباحية والمخطط الإستراتيجي عن كيفية مسير رحلة اللجوء منع النوم من الزيارة، وما هي إلا ساعات حتى طُرق باب الغرفة، مع رسالة من صاحب الفندق تفيد بإخراجنا من الغرفة أو زيادة الأجار، فالجميع يعلم أن كل لاجئ في أي بلد يدفع فاتورة أخرى، فهو عرضة للاستغلال الذي مللنا من ذكره، وسرد أساليبه، بقينا في مكاننا كي لا تأكل شوارع أزمير من طاقتنا… وتستهلك ما تبقى من أمل في صدورنا…
مر أسبوع لا شيء فيه، سوى أنك أصبحت ذا خبرة عالية في خبايا فن التهريب، والمهربين فأنت في اليوم تلتقي عشرات المهربين، والسماسرة، كي تختار ما هو آمن أو كما نقول ابن حلال، إضافة للسعر الذي يناسبك، وطبعاً الأسعار ألف دولار وما فوق يرتفع وينخفض حسب سعر الدولار وأيضاً حسب نوع الوسيلة التي ستركب بها بلم، يخت، قارب صغير، والمضحك المبكي عندما تخاف على نفسك تقول أدفع المهم أن أصل حيا، تكتشف فيما بعد أنه لا يوجد يخت مجرد نصب واحتيال، وفي لحظة الحس الصحفي بدأ يلعب في واقعيتي وعقلانيتي التي تسلحت بها طوال الوقت، وراح يؤلمني، فالمافيات تلعب علنا في شوارع أزمير التركية، يبتزون الناس لعلمهم بظروفهم التي لا تسمح لهم بالبقاء أكثر، ناهيك عن أن المهرب يعلم متى يحرك زبائنه من الهاربين فهو على تنسيق بكل لحظة مع رؤوس كبيرة في المافيا التركية، وخفر السواحل، ولكن لقناعتي أن لا جدوى جلست مع المهرب على طاولة المفاوضات، وناقشت خريطة الطريق التي سنسلكها، وأيقنت التالي… في أزمير التركية لا مجال لأي انتفاضة…
تم الاتفاق، وبالأصح عقدت الصفقة، جُمعنا في ساحة أزمير، لتنطلق بنا فيما بعد سيارات معدة لنقلنا إلى المكان الذي سنغزو من بعده بحر إيجه..
الثالثة فجرا، وصلنا منطقة خالية تماما من الحياة، لا يوجد فيها سوى بناء هيكل عظمي، طلب منا الاختفاء تحت جدرانه الشبه آيلة للسقوط، مع صمت مطبق، ومئتي بشري وعشرات الأطفال، لا نسمع سوى أصوات شهيقنا وزفيرنا الممزوجة بنوبات الخوف المبعثر في المكان، خوف من العتم في أرواحنا، ووميض نظرات تخترق بعضها رغم السواد الذي يلفنا… أفكارنا كانت مشتركة، هل سنقتل وتسرق أعضاء أجسادنا، أم سيكتفون بسرقة ما نحمل من النقود القليلة، أشباح أفكارنا منعتنا من سماع صوت أحد الرجال يأمرنا بالتحرك باتجاهه، ولكن حدة نبرته عندما كرر النداء جعلتنا أمامه كما صف العسكر.. خطواتنا كانت تداعب الأرض وكأننا نطير كي لا يصدر أي صوت ينبه الأمن التركي على وجودنا، ما جعل الزجاج المحطم تحت أقدامنا يئن ألماً فهو وحده شاهد على مصيرنا، الصوت الصادر عن الزجاج حتى اللحظة يبكي في أذني كنوتة موسيقية حزينة مجهول مبدعها، حفرت في روحي.. والمدون الوحيد لآخر خطواتي وطفلي قبل رحلة الغموض، هو وحده فقط شعر برقص مفاصلي على الأرض، هو وحده كان يشعر بارتجاف أبهري..
شاحنة كبيرة كانت في استقبالنا، لم تكن مجهزة بالورود، رائحة علف المواشي أبلغتنا أين سيكون مقامنا التالي..
اعتلينا شاحنة البعير التي استقبلت مئة وخمسين بشريا، اعتليناها ونحن نرى فيها المنقذ الذي سيتجه بنا نحو الخطوة الأخيرة، التفكير العني، العقل مخدر، أغنام، ماعز، بقر، كل ذلك ليس مهما فلا مجال للتراجع…
عشر دقائق، الأوكسجين غادر الشاحنة ملوحا لنا بيديه، فالشاحنة مخمرة بنقاب أخضر سميك تحجبنا عن الرؤية، استنجد الركاب فنزل السائق ورفع نقاب مدللته، وعاد الأوكسجين بكامل أناقته حتى ظننا أننا سنتقاتل من أجله..
الشاحنة تشق طريقها دون هوادة، لا نعرف أين نحن من الكرة الأرضية، والسرعة التي يقود بها السائق لم نلمه عليها، مسكين فهو معتاد على أن يقود بعيرا فقط، فهو لا يعلم أن المطبات والحجارة التي يمر من فوقها قد مزقت أمعاءنا، كل هذا لا يهم لأن المطبات الهواية التي بدأت تجتاحنا أنستنا مطباته الرقيقة، فالبرد أرسل نفحاته الثلجية إلى رؤوسنا، فتسللت إلى أرواحنا وزرعت اليباس فيها، ووجوه الركاب كانت قريبة من بعضها لدرجة التلامس، وهذا جعل الكثيرين يتعانقون بمعطف واحد، والبعض تقاسم الثياب التي كانت مرتبة في الحقائب، وسيئ الحظ من اختفت حقيبة ترحاله بين الأقدام..
ساعات تسع مرت كما لم يمر وقت آخر، حياتنا كانت مسلسلاً كاملاً بكل تفاصيله، في تلك اللحظة فقط أدركنا، كنا سعداء.. يا اللـه نعم كنا سعداء، لم يقطع حلقات المسلسل سوى اصطدام العظام ببعضها فوقنا، فقد وقع عشرات الشبان الذين فضلوا أن يبقوا واقفين طوال الرحلة، على أن تجلس النساء والأطفال على أرض الشاحنة، التصادم كاد أن يودي بحياة الجميع، ولكن تكاتف الأيادي وعملية الإنقاذ السريعة، أمضت ما تبقى من وقت دون ضحايا.
وصلنا.. التوقف المفاجئ للشاحنة أخبرنا بذلك، فتحت الأبواب، بدأنا بالقفز الجماعي، غابة واسعة تطل على شاطئ بحر واسع عميق، هادئ كما طفل هدهدت له أمه ترجو اللـه أن ينام..
ساعات ثلاث ونحن لا نعلم من ننتظر، مسيرون، ننتظر أمراً، قراراً، نطقاً بالحكم، هل هذا هو الشط الذي سنغزو من بعده أوروبا، تساؤلات كثيرة عربشت على خلايا دماغنا، أنهكته…
خرق تفكيرنا عثماني طاعن في السن، ذو شاربين عريضين، يحمل بيمناه عصا يحركها بكل الاتجاهات، ما هذه العصا، آه إنها لنا..
بدأت عصاه بعدنا، وكنا نعد وراءه، قام بإحصائنا، ليأتي رجل آخر فيتشاركا معا بتقسيمنا لمجموعات، كي نوزع على البلمات التي ستشق بنا عرض البحر، طبعا بات الجميع يعرف البلم هو القارب المطاطي الذي يتسع أقصى حد لتسعة أشخاص، وفي رحلة الموت، يصعد إليه ما مايقارب الخمسين راكبا وأكثر..
أنزل ركابنا البلم الخاص بنا إلى المياه، عداد الوقت أعلن بداية ربما النهاية، وبدأت عصا ذلك التركي تصفعنا بسرعة جنونية، وكأننا خراف مزرعته، ويريد لملمتنا في الزريبة قبل أن يسدل الليل ستائره، انصعنا للأوامر فلا مجال للعب معه، أو الرد عليه، فهو سينهال عليك ضربا مبرحا، دون الاكتراث، ويعلم أن لا أحد سيتجرأ للدفاع عنك، فالجميع همهم الأكبر الهرب، هنا لا للكرامة.
بدأنا النزول في المياه، دوامة البحر، غدر البحر، البحر مالح، البحر خائن، فوبيا البحر، أكره البحر، كل هذه المصطلحات طرقت باب دموعي، سقطت وصغيري في الماء، ضاع طعم دموعي، لم أعد أعرفها فملوحة وعمق بحر إيجة كان أوسع من بوابة حزني..
مركبنا أي البلم كان محظوظا، ربما هي رحمة السماء، عددنا سبعة وعشرون شخصا، إضافة إلى السائق الذي هو طبعا عبارة عن راكب، يقود البلم ويجازف بأرواح من معه مقابل ألا يدفع قرشا واحدا، فسعر الراكب ألفان ومئتا دولار أميركي، إذا مغامرة مائية بامتياز، مرهونة بالحظ…

متليني في الانتظار
انطلق المركب، بعد أن رمينا خلفنا حقيبة ملأى بالذكريات، وصورا تحكي مجدا، فرحاً، قصة حب، نجاحاً، وأحلاماً مبتورة، وشتلة ياسمين، وبعضاً من روح..
انطلق المركب ولم نحمل معنا إلا طوق النجاة البرتقالي، لأنه الوحيد الذي سيدل علينا إذا ما تطفلنا على المياه الهادئة وشربنا منها حتى تخمة البطون..
رفض مركبنا متابعة الطريق وقد أصبحنا في عرض البحر، يبدو أنه أكثر جرأة منا ولكن، لا إمكانية أبداً للعودة سباحة، فالأغلبية لا يعرف اللعب مع الماء، خاصة الأطفال، الخوف بدأ يتسلل كما لص محترف، الصراخ رفيق النساء، والبكاء ربيب الأطفال، اتحدوا في المركب معا، ليضخوا إحساساً رهيباً لم نعرف مذاقه من قبل، يشبه معنى أن تلامس الموت قبل أن يقترب هو منك، تنظر في الوجوه، تستغربها، نتساءل، هل من المعقول أن هذه الملامح الجميلة ستغدو وجبة سريعة للأسماك، هل هذه الدموع التي تنبض من هذه العيون الحية، ستجف ويختفي بريقها، أفكار تصارعك وتصارعها في لحظات، والنتيجة لا غالب ولا مغلوب.
دار المحرك، انقبضت القلوب أملا، تغيرت الملامح وكأن رساما ماهرا أعاد في ثوانٍ تشكيلها من جديد، أصوات الضحك، والفرح، التكبير غزت صدر البحر، إذا سار المركب وأصلح العطل وسبب الخلل، أن السلك أو الوصلة التي تضخ الوقود للقارب تالفة، والمهرب يعلم بالأمر ولم يعطى تنبيها أو إنذاراً لنتدارك المصيبة في وسط البحر، أحد الشبان وجد المشكلة وتبرع طوال الوقت بالإمساك بذاك السلك التالف والضغط عليه كي لا يهرب منه الوقود إلى أن نصل بسلام، وكان ذلك…
سكون تام تخترقه تمتمات النساء التي تعبر عن فوضى ورعب بداخلهم، فهم محاطون بالبحر، ويلتحفون السماء، واليابسة أمام عيونهم تناديهم، فالمسافة قصيرة جداً ولكن اجتيازها في هذا القارب، وتلك المياه كفيل بعدم الوصول حتى لو كانت أمتاراً بسيطة..
خُرق الصمت، اقتحام بحري غير متوقع، لانش تركي سريع كما البرق، لم يمنعه عن اصطيادنا سوى صراخ الأطفال، وعويل النساء الذي كاد يقسم سطح البحر، ارتجفت السماء من تكبيرات النجدة، حتى رجالنا لم يكونوا كما خبرناهم، موجع الخوف في عيون الرجال، تقهرني كأنثى دموع الرجال، تذبحني كأمرأة انكسارات الرجال، ولكن هنا تتحد الذكورة والأنوثة في بلم واحد، ضجيج وتوتر، ونداءات، بكل اللغات، معنا أطفال، ومع ذلك لم يتوقف عن محاولاته إغراقنا، ارتفع منسوب المياه داخل البلم نتيجة رفعه للأمواج خلال حركاته الاستعراضية، ودون إنذار رمى علينا موجا عاليا نطقنا بعدها بالشهادة، وانصرف… لم نستوعب أننا لا زلنا خارج أعماق البحر، ولم نكف عن التساؤل… هل تعاطف معنا، خاصة أنه شاهد جنون أطفالنا ونحن نصارع الموت، ولكن اكتشفنا أننا تجاوزنا المياه الإقليمية التركية، ودخلنا المياه اليونانية، ولا يحق له اعتراض طريقنا..
إذا الحظ كان حليفنا وللمرة الثانية تجاوزنا العقبات وبات أمامنا أمتار بسيطة، ونرسو على رمال جزيرة متليني اليونانية…
جزيرة متليني تمد لنا يديها، الفرحة في الصدور كفرحنا بنصر على الذئب الذي التهم فلسطين، وكأننا أخرجناها من جوفه كاملة لا ينقصها إصبع، ولكن رحلة الدراما لم تكتمل فصولها بعد، عرفنا أنه يجب أن نثقب البلم قبل وصوله لشط الجزيرة بمترين كي لا يعيدنا الخفر اليوناني إلى تركيا، ولكن أحد الشباب المتحمسين ثقب البلم قبل وصوله بأكثر من عشرة أمتار، فنزل معظم الركاب تحت الماء، منهم من أكمل سابحا للشط، ومنهم من احتاج مساعدة، ومنا من بقي في البلم فهو لا يعرف السباحة ولم يجد من يسبح به، لحظات جنون فظيعة تجف الأقلام ولا تعطيها حقها في الوصف، في منتصف البحر والبلم يوشك على الغرق أشعلت سيجارة، وفي اليد الأخرى أمسكت بطفلي، وذهبت لمكان حتى اللحظة لا أعرف أين كنت، استيقظت على أصوات العديد من الشبان وهم يجدفون بنا نحو رمال متليني، وكان ذلك..
عانقنا رمال جزيرة متليني، انتصرنا على الموت في إيجه، عناق الحياة، بكاء النجاة، مشاعر سُطرت وحُفرت على رمال متليني هذه الجزيرة الشاهدة على مئات الأسماء، هذه الجزيرة كتبت روايات لأرواح ليست من ورق، هذه الجزيرة سجد على رمالها كل الواصلين، وبعثر رمالها براحتيه قهرا وحزنا، وألما، كل الخاسرين لأحبتهم، مياه متليني معجونة بدموع، ودم، وقهر، وانكسار، نحن وصلنا أحياء، نعم أحياء، ولكن الخراب الذي يستوطن أرواحنا بحجم السماء، خراب في حواسنا، في أنفاسنا، في سلوكنا، جزء منا وهو الجزء الكبير، ليس في وطننا فحسب، بل خسرناه على الطرقات باتجاه بلاد الغرب، جزء كبير من أمالنا وأحلامنا تحطم على الدروب، وجزء أحرقته الحرب وأتلفته، أخذنا قرارا ومشينا بحزم اتجاهه، وخضنا تجارب وليالي موجعة، لنصل ونكتشف أن أوروبا ليست جزيرة كنز، ولا مدينة الأحلام الجميلة، ولا بلاد الرفاهية، بل هي بلاد اجترار الآلام والذكريات، وبلاد لن تغنينا أبدا عن نسائم بلادنا… أوروبا والكنز المفقود… خيبة كبيرة بحجم الأرض…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن