ثقافة وفن

تجارة الوهم…!

إسماعيل مروة : 

مذ كنت أدرج صغيراً وأنا أستمع له وله وله، ولهم، أردد ما يقولون، أحفظ ما يقولون، أقتدي بما يقولون، أقطع المسافات إليهم، لأنني رأيت أنهم غذاء الروح، مع أنه كان لا يستقبلني أحياناً، ويقولون: غير موجود، مع أنه موجود وصوته يصل إلى مسمعي! كنت أعود بخفي حنين، وتدور في رأسي الأفكار، لكنني ما ألبث أن أعود لأسلك الطريق ذاتها مرة أخرى إليه، لأجلس وأستمع وأستمتع، وأتمنى الأماني..!
لم تخضع هذه العلاقة الملتبسة يوماً لنقاش عقلي يدور مع ذاتي، ولم تكن قابلة لأن أرددها في همسي، فقد كانت أجل وأعلى، وأخاف إن أنا ترددت أن يعرف ما بي ويشعر هذا أو ذاك، أو جميعهم، لذلك كنت أزيح عن مرآة فكري أي محاولة للنقاش، ولم أسأل: لمَ هو ولست أنا؟ لمَ أنا وليس صديقي اللصيق؟
حين رحل بقي الباب موصداً حتى كان ولده مقصد الناس! يومها لم أعد أقصده، وفهمت معنى الجائزة!
تقبيل يده جائزة! الانتظار على بابه جائزة! وكله: الأجر على قدر المشقة! أما الجوائز الكبرى فهي التي سننالها عند لقاء الباري عز وجلّ، لا أدري لم انتابني هذا الإحساس عند رحيله، إحساس غريب قبل ربع قرن تكون مع رحيله! لم أدر لمَ سألت: إذا كان في حياته بخيلاً بجائزة، وإذا كان بخيلاً بعاطفة، وإذا كان ضنيناً بموعد، وإذا كان بركة آسنة لا يتغير ما فيها فماذا عساه يفعل بالجوائز التي وعدنا بها، من المؤكد أنه عندما يحظى بالجوائز لن يبقي لنا شيئاً، فهو كان بخيلاً بما بين يديه، وبما ينهل على رأسه سيكون أكثر بخلاً! وفي الساعة نفسها سألت: لم كانت جائزته هنا لولده؟ لماذا لم يقنع ولده كما أقنعنا بأن جائزته عند الباري أعلى شأناً وأغلى ثمناً؟!
السؤال الأهم الذي طرحته، ما من يوم إلا وقال: افعل كذا وجائزته كذا، فهو يعرف الفعل وجائزته، فهل ننتظر جائزة عن كل فعل؟ وهل يعقل أن يتم إغراء المرء بجائزة لفعل ما هو في صالحه ومصلحته؟ وما قيمة أي فعل إن كان أحدنا يفعله ليتلقى جائزة عليه؟ وبالمحصلة هو يرغب بالجائزة ولا يتعاطى مع جوهر الفعل! يمارس حياته لينجب طفلاً لا ليسعد روحاً، ويسعد روحه، وشتان ما بينهما..!
المهم أن الجائزة المرئية كانت له ولولده، فقضى حياته يتلقى، وترك التلقي لسلالته، ونحن قضينا عمرنا نقدم وننصاع، وتركنا لسلالتنا أن تفعل فعلنا! والجائزة غير المرئية قد يستهلكها ويستأثر بها ولا تصل إلينا، فعن أي جائزة نتحدث؟ وعن أي طهر ونبل في العلاقة بين الفعل وعوائده نثرثر؟!
إنها تجارة الوهم… تجارة كلنا خاسرون فيها، حتى من استأثر بالجائزة المرئية وأهداها لسلالته، لأنه استولد الوهم والضعف والاتكال.. تجارة الوهم لأنه لم يدرك كنه الخالق وحقيقته فرسمه على غير الصورة.. والأمر أسهل من ذلك بكثير، ولا وهم فيه إلا إذا كان الولد أهم من الجمع في فكر يوهمنا أنه قائم على الجمع والمجتمع!
ما من مرة دعا أحدهم إلى الحب وأحب!
ما من مرة دعا إلى الكرم وكان كريماً!
ما من مرة دعا أحدهم إلى الزهد وكان زاهداً!
ألا ينتظر هو الجائزة أيضاً؟ هل له مفهوم للجائزة؟
في كنيسة أو مسجد، عند رجل دين وعالم أمتع النصيحة للآخر، وأفخر ما يمكن أن تراه عين في ألطف الأحلام لا الواقع، وأنت يا هذا عليك أن تكون زاهداً متقشفاً شاعراً بالآخر!
لا أنكر أنني التقيت مع عدد من الذين ملكوا الحسّ الإنساني العالي، لكنهم…!
شأنهم شأن الساسة الذين يديرون أمور الحكم، الذين يؤمنون بمبدأ الجائزة، لكنها جائزة بين أيديهم، فإن فعلت صرت، ولم يخطر ببال أن من يفعل ليصير، سيتخلى عندما يمنع عنه، وكما عشنا في ديننا تجارة الوهم، والتي انغمس فيها الناس جميعهم مهما بلغت مراتبهم العلمية والعقلية، كذلك عشناها في أوطاننا التي تاجر بها الجميع، وكله من مبدأ الجائزة، تجارة الوهم!
والأنكى أن جميع من تحدثت عنهم حصلوا على جوائزهم، وكان الوهم عقيدة ووطناً!
الإنسان لا يرتوي جوائز، والعقيدة والوطن خارج إطار الجوائز، وكلما منح أحدهم لأحدهم جائزة منهما كبر الوهم وغابت الحقيقة.
أحب الله لأنه يستحق العبادة لا ليكافئني، ولأنني المستفيد.
أحب وطني لأنه مستحق للحب والتقديس….
أعشق وطني لأن ترابه يعنيني لا لأحصل على جائزة..
الحب والعشق والعبادة سلوك لأن المحب والعاشق والعابد يريد، والجائزة الكبرى أن يحمل هذا اللقب، لا أن يحمله وينتظر المثوبة بجنة أو موقع..
كذا وإلا فسنبقى في تجارة الوهم، وتجارها لا يعرفون شيئاً عنها إلا ما يرتد إليهم، وكل من يخالف أو يعترض لا جائزة له، ولد وهماً، عاش وهماً، لكنه مات حقيقة، وما أصعب الحقيقة في دوامة الوهم التي تصرع العقل، وتجعله غير قادر على التوازن والفهم، وعلى اعتناق المبدأ لأنه يستحق.. يستحق وحسب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن