ثقافة وفن

الغناء الأوبرالي.. جمالية الأداء ورقي الحضور…أصوات لم تعترف بالحدود وجالت العالم من دون جواز سفر

ديالا غنطوس : 

الصوت، ذلك النغم الذي يهز أوتار القلب، الذي يرقص على حبال من ذهب، وهبها اللـه لأحدهم، فأطلقها لتصدح معلنة الحرية، لتتجاوز المسافات، وتخترق القلوب، وتحط رحالها في دور الأوبرا العالمية، تلك السيدة الأرستقراطية التي تزينت بألق التاريخ وعبق الحياة المترفة، فاختالت تختار عشاقها الذين وقفوا مشدوهين أمام حرم الجمال الآسر.
مما لاشك فيه أن الغناء الأوبرالي له مريدوه ومعجبوه، أولئك القادرون على فهم لغته الشاقة، العصية على الإدراك إلا لمن استطاع تسليم روحه للنغم المنبعث من حنجرة ماسية، ويشهد التاريخ على حالات متفردة من عمالقة الغناء الأوبرالي الذين هزوا عرش المسارح العالمية.

وهذا ما ينطبق على أسطورة التينور لوتشانو بافاروتي، إيطالي المولد، عالمي الانتماء بصوت داعب مسمع ذواقي الغناء الأوبرالي حول العالم وأطربهم بأغان عظيمة وخالدة، كانت بلغات عدة منها الإيطالية والإسبانية والإنكليزية، وُلد بافاروتي عام 1935 في مدينة مودينا الإيطالية، لعائلة متوسطة الدخل فوالده كان يعمل خبازاً وأمه عملت في معمل للسيجار، تخلى بافاروتي عن حلمه بأن يصبح حارس مرمى كرة قدم حين اكتشف ميوله الغنائية فبدأ بالغناء في الكنيسة وهو في عمر التاسعة، واتجه بعد ذلك لدراسة الموسيقا والغناء عند بلوغه سن التاسعة عشرة، وقد زاول مهنة التدريس مدة عامين قبل أن ينطلق في مسيرته الفنية الاحترافية بالغناء الأوبرالي عام 1961 في إيطاليا حين فاز بمسابقة الغناء الدولية، وشارك في العام نفسه في أوبرا «La Bohe’me» للمؤلف بوتشيني، وبعد نجاحه هذا بدأ الغناء خارج إيطاليا عام 1963 في هولندا ثم في فيينا، وبعد ذلك بعام حقق شهرة في بريطانيا بعد غنائه في مهرجان غليندبورن، واستقبلته لاحقا العديد من دور الأوبرا العظيمة في أنقرة وبرشلونة وبودابست، ووصل لاحقا إلى نيويورك ليغني في دار أوبرا ميتروبوليتان، وبحلول عام 1966 حقق بافاروتي شهرة عظيمة على مستوى العالم ومن أبرز محطاته الغنائية حين شارك بأداء «قداس الموتى» للمؤلف العالمي Verdi في دار أوبرا La Scala في مدينة ميلان الإيطالية، وبين عامي 1970 و1980 حجز بافاروتي لنفسه صفة أعظم مغني تينور حول العالم بصوته المتميز بقدرته على الوصول للطبقات العليا منه، وكان له العديد من الأعمال الأوبرالية الخاصة به مثل «Madama Butterfly» و«Tosca»، وحقق نجاحاً منقطع النظير بمشاركته في فرقة ثلاثي التينور مع بلاسيدو دومينغو وجوسي كاريراس، وصدر ألبومه الأول للغناء الفردي عام 2003 باسم «Ti adoro»، وكان آخر أداء غنائي له في أوبرا «Mets» عام 2004 أي قبل سنوات قليلة من وفاته عام 2007 عن عمر يناهز 71 عاماً إثر معاناته من مرض السرطان، وقد قام المغني الأوبرالي «أندريا بوتشيلي» بغناء أنشودة خاصة في جنازة بافاروتي أطلق عليها «تحية إلى بافاروتي Tribute to Pavarotti».
وكما كان بافاروتي أسطورة في الغناء الأوبرالي، فإن العبقري أندريا بوتشيلي كان عظيماً في الغناء الأوبرالي والكلاسيكي أيضاً، إضافة لكونه منتجاً موسيقياً وكاتباً في الوقت ذاته، ولد بوتشيلي عام 1958 في ريف مدينة بيزا الإيطالية في مزرعة والديه اللذين كانا يعملان في بيع الآلات الزراعية وصناعة النبيذ، وعلى الرغم من فقدانه لنعمة البصر في طفولته عند بلوغه سن الثانية عشرة، إلا أن ذلك لم يكن عائقاً في وجه مواهبه الموسيقية والغنائية التي ظهرت قبل بلوغه السادسة من عمره، فبدأ بدراسة العزف على العديد من الآلات الموسيقية كان من بينها البيانو والغيتار والدرامز، وترافق ذلك مع ممارسته الغناء، وفاز بمسابقة «مارغاريتا دي أورو» وهي أول جائزة ينالها في عالم الموسيقا وذلك في سن الثانية عشرة، درس بوتشيلي الغناء على يد الفنان الشهير فرانكو كوريلي والمايسترو لوتشانو بيتريني، ولكي يؤمن المال اللازم للدراسة قام بالعمل كعازف بيانو في عدد من الحانات والمقاهي، ظهر له ألبومان للغناء الأوبرالي عام 1994 و1996 وقد قرع الحظ بابه عام 1996 حين قام بغناء أغنيته «معك سأحيا» مع المغنية الإنكليزية سارة برايتمان إنما باسم جديد «حان وقت الوداع» فانتشرت في جميع أنحاء العالم وحطمت أرقاماً قياسية في مبيعاتها، وبعدها غنى بوتشيلي في عدد من المدن الأوروبية وأصدر ألبومين هما «رحلة إيطالية» و«رومانزا»، ولاحقاً وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1998 وغنى في البيت الأبيض، وبعدها بعام أصدر ألبومه الخامس «سوغنو» الذي أدى فيه أغنية بمشاركة المغنية العالمية سيلين ديون وحصل ألبومه على جائزة غولدن غلوب، وتوالت بعدها أعمال بوتشيلي الأوبرالية وألبوماته الغنائية التي كان آخرها ألبوم «Passione» عام 2013، وأوبرا «Manon Lescaut» عام 2014.
عندما نتحدث عن عراقة فن الغناء الأوبرالي، يجذبنا اسم مغني التينور الأوبرالي الإيطالي كارلو بيرغونزي الذي كان أحد أعظم مغني الأوبرا العالميين خلال القرن العشرين، ولد بيرغونزي عام 1924 في مدينة بارما شمال إيطاليا، ظهرت موهبته الفريدة حين بدأ بالغناء الأوبرالي في الكنيسة عند بلوغه السادسة من عمره، بعد أن ترك المدرسة في سن الحادية عشرة بدأ العمل مع والده في مصنع للجبن، لكنه توجه لاحقاً في سن السادسة عشرة للدراسة الصوتية في كونسرفتوار أريغو بويتو في مدينة بارما الإيطالية، وبعد ذلك بثلاثة أعوام وخلال الحرب العالمية الثانية تعرض للسجن في معسكرات الاعتقال في ألمانيا عام 1943 بسبب أنشطته المعادية للنازية وتم تحريره بعد عامين على يد القوات الروسية، ليعود عام 1948 إلى إيطاليا ويبدأ مشواره الغنائي الاحترافي، فقام بأداء دور «فيغارو» في المسرحية الأوبرالية الشهيرة «حلاق إشبيلية»، حتى ذاعت شهرته بعد ذلك كمغن عالمي عام 1954 بعد أن توجه للغناء في الولايات المتحدة الأميركية ولندن، وقدم بيرغونزي خلال حياته أعظم أدوار التينور في الأوبرا الإيطالية، وخاصة بعد غنائه عام 1951 في المسرح الروماني في روما في الذكرى الخمسين لوفاة فيردي، وقد قام بأداء أكثر من 40 دوراً غنائياً طوال حياته المهنية كان من أهمها دوره الغنائي في «لا سكالا» و«لا فورزا» عام 1953 اللذين كانا نقطة تحول في حياته الفنية، وأدائه دور «دون ألفارو» في كوفنت غاردن عام 1962، لكن خلال فترة الثمانينات ومع تقدمه بالعمر تدهورت حالته الصوتية وكان آخر أدواره الغنائية الناجحة عام 1988 حين أدى دور رودولفو في «لويزا ميلر» لفيردي، وترك كارلو بيرغونزي إرثاً عظيماً من تسجيلات الألحان الفردية وحفلات الأوبرا بما في ذلك أعمال فيردي وبوتشيني، وظل بيرغونزي يعمل حتى آخر أيام حياته حيث كرس وقته للتدريس وتعليم الغناء، حتى رحل عام 2014 عن عمر يناهز 90 عاماً في مدينة ميلانو الإيطالية، مسدلاً الستار على أكثر من 50 عاماً أمضاها في الغناء الأوبرالي.
أما عربياً وبالتحديد في سورية فلا تغيب عن ذاكرتنا المغنية آراكس شيكيجيان التي استطاعت أن تحفر اسمها كأول «مغنية أوبرا» سورية على الإطلاق في عام 1982، إضافة إلى المبدعة لبانة القنطار وهي أول مغنية أوبرالية تراقصت حنجرتها الذهبية على مسرح دار الأوبرا السورية بين الصوت الأوبرالي الفخم والمقامات الشرقية الأصيلة. ونستذكر أسماء العديد من المغنين الأوبراليين أمثال المغنية السورية العالمية تالار ديكرمنجيان، والحلبي رازق فرانسوا بيطار، لينا شاماميان، وغيرهم العديد من المواهب الفذة التي مازالت تخط طريق نجاحها بأصوات صنعت من خامات أصيلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن