ثقافة وفن

د. ليلى الصباغ أول سيدة في مجمع اللغة العربية … المؤلفات التي أصدرتها تجاوزت الأربعين متنوعة بين كتب ودراسات وأبحاث ومقالات

| سوسن صيداوي – تصوير: طارق السعدوني

في العلامة هي ليست فارقة بل سابقة، وبغض النظر أن يكون المرء في وسط تنويري، يجب أن يكون هو صاحب قرار بأن يملك فكرا تنويريا، ويسعى إلى العلم بكل ما لديه من طموح ودافع. هي سيدة سورية، وعلى الخصوص دمشقية، ترعرت في كنف أسرة تحب العلم وتسعى إليه ولو كان في الصين، أسرة لا تميّز في نهل العلم والمعرفة بين صبي أو فتاة، فالاثنان سواسية والسعي لمكاسب ودرجات العلم هو فخر للاثنين. إنها الدكتورة والباحثة ليلى الصباغ، المسافات لم تنهها أو تقصها عن حلمها في الحصول على شهادة جامعية، بل كان ذلك دافعا كي تحصل على الماجستير والدكتوراه، ومن ثم ترافقت مع أوراق روزنامة الزمن، وكلما سقطت ورقة لشهر، هي كسبت درجة علمية، أو منحت من خلال امتهانها التدريس والتوجيه في المدارس وبعدها الجامعات كل عطاء، لم تبخل بل نشرت ما جمعته من أبحاث عبر مؤلفات وصلت إلى نحو أربعين مؤلفا تنوعت ما بين كتب ودراسات وأبحاث ومقالات نشرت في صحف ومجلات عربية وعالمية. ولأنها تستحق التكريم، برعاية وزير الثقافة محمد الأحمد، أقامت وزارة الثقافة ندوة (سوريات صنعن المجد) الشهرية الثالثة بعنوان: (ليلى الصباغ.. رحلة في التاريخ تأليفاً وتحقيقاً وتدريساً) في قاعة مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، شارك في الندوة الدكتور عبد الناصر عساف متحدثا في المحور المخصص له (ليلى الصباغ ومنهجها في تحقيق التاريخ)، أما الأستاذ غسان كلاس فكان محوره يتحدث (حول ليلى الصباغ المدرسة والمؤلفة). على حين تحدث الأستاذ عامر الصباغ عن (ليلى الصباغ صورة عن قرب). على حين أدار الندوة الدكتور إسماعيل مروة.

قامة لم تسع لشهرة
تحدث د. إسماعيل مروة عن محطات مهمة من حياة الدكتورة ليلى الصباغ التي كانت قد درسته في السنة الرابعة، مشيرا إلى مواقفها الإنسانية قائلا «لقد اخترنا أن تكون الدكتورة ليلى الصباغ من بين السوريات اللواتي صنعن المجد، لأنها قامة فكرية وأكاديمية. هي شخصية لا يفكر الكثيرون في الاحتفاء بها، وعادة نحن نكتفي بالأديبات والشاعرات، وبالقاصات، وقلما نفعل ذلك مع الأكاديميات. الدكتورة الصباغ واحدة من الأكاديميات المهمات، وهي من السوريات الأوليات اللواتي حصلن على الشهادة الجامعية، ودرست في القاهرة بكالوريوس، وكانت من التربويات المهمات، حيث كانت مديرة ومن ثم موجهة وبعدها أستاذة جامعية، وبقيت تترقى حتى أصبحت عضوا في مجمع اللغة العربية. خرّجت أجيالا من الطالبات والطلبة، وأسست لمناهج في التاريخ العربي، لذلك يحسن أن نقف وراء هذه القامة التي لم تسع يوما وراء شهرة، وكانت نقطة من حياء في بحر علم، فخاضت العلم وتركت الشهرة. إنها سيدة من أوليات سيدات سورية والشام، فمن عام 1971 هي أستاذة في جامعة دمشق، والدكتورة الصباغ هي من أوائل الذين علمونا منهجية البحث.

أول سيدة في مجمع اللغة العربية
انتخبت د. ليلى عام2000عضوا في مجمع اللغة العربية- كأول سيدة- وعن هذا الجانب وغيره تحدث د. عبد الناصر عساف «لابد لنا من الحديث والإشادة بجهود الدكتورة الصباغ في تحقيق التراث والتاريخ، وتبين الأصول التي قام عليها منهج هذا التحقيق، إضافة إلى الإشارة إلى القيم العلمية التي تتضح للقارئ، فهي كاتبة وامرأة ذات رسالة علمية ومنهج علمي قدمته بكل إخلاص، وهي رائدة من رائدات الأدب والفكر والعلم، وكانت أول امرأة تسجل اسمها في مجمع اللغة العربية بدمشق، كانت امرأة ذات رسالة في كل المجالات التي عملت بها وكانت حريصة على أن تكون متقنة لكل ما تقوم به ومخلصة لعملها ولقرائها. ولابد لي من القول إن الدكتورة الصباغ صححت العديد من كتب التراجم والتاريخ، وكانت حريصة على صيانة النص من الأخطاء الكتابية والنحوية واللغوية والتاريخية، فلقد نهضت لها بالعلم والمنهجية، ونبهت عليها تنبيها معززا بالأدلة من خلال المصادر والمراجع».
وتابع د. عساف حديثه حول محاسن تعليقات الدكتورة الصباغ في التعريف بالأماكن والمواقع الجغرافية، وكيف ربطت بعض الأماكن بواقعها الحالي، مبينا في أبحاثها ما آل إليه حال هذه المواقع.

عطاء مستمر حتى بعد الوفاة
من جانبه تحدث الأستاذ غسان كلاس عن المحور المخصص له في الندوة، متوقفا عند محطات فكرية مهمة في حياة الباحثة «في الواقع الأستاذة والدكتورة والباحثة ليلى الصباغ علامة مميزة، وعلامة فارقة في تاريخنا الفكري والأدبي، ويمكنني القول هي علامة فارقة حتى في آفاقنا المستقبلية، من خلال الفكر الذي قدمته والذي يستشرف المستقبل، والذي يؤدي غاية مرجوة من أجل الإنسان، وكان دائما الموضوع الأساسي عند الدكتورة الصباغ هو الإنسان، والمرأة على وجه الخصوص، وأنا أؤكد أن المرأة ليست نصف المجتمع بل هي المجتمع كلّه، كما هو معروف من خلال أدائها ومن خلال بنيانها وتكوينها الأسرة والآثار التي تترتب على ذلك». كما توقف أستاذ كلاس عن نشأة الدكتورة الصباغ وتكوينها الأسري «لقد ولدت في عام 1924 واستطاعت- من خلال الأهل المتنورين- أن تشق خطاها قدما، نحو المستقبل، ونحو تربية الأجيال. ونحن والأجيال إلى الآن ننهل كلنا من نبع الدكتورة ليلى الصباغ، والفكرة التي أحب أن أشير إليها أن يعطي الإنسان وهو حي هذا أمر، وأن يستمر عطاؤه بعد وفاته فهذا أمر جدّ مهم. الدكتورة الصباغ من خلال أسرتها المتنورة كما أسلفت، استطاعت أن تغادر إلى مصر في وقت مبكر من حياتنا، فلقد ذهبت لتحضير الدرجة الأولى الجامعية (الليسانس) في عام 1947 إلى مصر ومن ثم درجة الماجستير ومن ثم الدكتوراه فيها، فهذا يدل على الانفتاح الفكري والعقلي للأسرة الكريمة الصباغ وأسرة الأبرش، لأن الدكتورة الصباغ كانت حفيدة أحمد الأبرش- جدها من أمها- وتربت في كنفه، لأن والدها توفي في رحلة الحج عام 1927». هذا وتناول أ. غسان العملية التدريسية- التربوية- التي قامت بها الدكتورة الصباغ، فمعروف أنها مارست مهنة تدريس التاريخ لمختلف المراحل، ليست المراحل الثانوية فقط بل حتى المراحل الجامعية، متابعا حديثه «استطاعت أن تدير مدرسة التجهيز الأولى، والتجهيز الثانية بكل اقتدار. وعلينا أن نعكف على المؤلفات التي أصدرتها- بكل تدقيق وتحقيق- فمعروف عنها أنها تعكف على البحث بكل إمكانياتها وقدرتها، وتتجاوز كل العقبات التي تعترضها، من أجل أن يكون هناك نتاج متميز وهكذا كان، ولها أكثر من أربعين نتاجاً فكرياً، بعضها على شكل كتب، وبعضها على شكل دراسات وأبحاث، عدا المقالات المنشورة في العديد من المجلات العربية والعالمية. وهنا لابد أن أشير إلى كتاب مهم وهو رسالة الدكتوراه، كتاب (الجاليات الأوروبية في العصر الحديث) فموضوع الكتاب حساس ودقيق جدا، فموضوع الجاليات يتصل بالامتيازات وفيما بعد بالاستعمار الغربي الذي احتل الأمة العربية، وغيره من الأمور المتصلة بهذا الموضوع. إذاً استطاعت أن تتناول هذا البحث بإمكانيات هائلة، ولابد من الإشارة أنها كانت تعتمد على المصادر الموثقة، والمرجعيات المهمة، ويذكر هنا أنها تتقن اللغتين الفرنسية والعربية بطلاقة، لذلك نجد في نهايات كل كتاب عشرات المصادر من الكتب الفرنسية والانكليزية إضافة إلى العربية. كما لابد أن نشير إلى جهودها في الموسوعة العربية، حيث ترأست قسم الحضارة العربية، إضافة إلى الأبحاث التي بثتها ضمن مجلدات الموسوعة، فهي كانت ترأس هذا الموضوع. وأيضا يجب أن نشير إلى أبرز كتبها وهو(منهجية البحث التاريخي)، هذا الكتاب من الكتب المرجعية والمصدرية المهمة، فهو يبنى على أسس تدحض وتشير إلى نظريات قديمة، وتأكيد نظريات حديثة والمواءمة بين النظريات القديمة والحديثة من أجل أرضية يرتكن إليها المؤرخ في تحليله للواقعة أو الحادثة التاريخية».

صورة عن قرب
توقف الأستاذ عامر الصباغ عند محطات قريبة في حياة الباحثة الصباغ «درست في القاهرة ليلى الصباغ بعد أن حصلت على منحة دراسية من الحكومة السورية لدراسة التاريخ في جامعة الفؤاد في القاهرة، التي كانت حينها متقدمة أشواطا عن دمشق في النواحي الاجتماعية والعلمية وحتى في نشاط الحركة النسائية. نالت ليلى شهادة (الليسانس) في عام 1947، وعادت لدمشق، في أثنائها كانت مؤهلة للتدريس في جامعة دمشق، ثم انتقلت إلى الجزائر ضمن برنامج إعارة، وأعجبت بعمارتها وطبيعتها وشاركت هناك بالكثير من المؤتمرات ونشرت في عدد من المجلات التاريخية مثل مجلة الأصالة الجزائرية. في الفترة التي عينت فيها مديرة لثانوية البنات الأولى والثانية، طبقت أساليب المدارس العصرية، وركزت إضافة للتدريس على النشاطات الرياضية والموسيقية والعلمية المختلفة، فقد كان لديها قدرة تنظيمية هائلة ومقدرة على الإحاطة بكل ما يجري في مدرستها، وإضافة لاستعانتها بالمعلمات والإداريات الكفوءات كان لها كراس خاص لكل سنة دراسية يحوي مخططا معماريا للمدرسة وجداول تبين الهيئة الإدارية وأعضاء الهيئة التدريسية ومؤهلاتهم وتقييم أدائهم. كانت الصباغ تمتلك شخصية قيادية واضحة وحازمة، وقد تزامن عملها مديرة مع سنوات غليان الشارع العربي التي تلت نكبة فلسطين، فأدت دوراً لا ينسى في تعزيز الوعي السياسي للطالبات».
كما تابع أ. عامر حديثه حول مؤلفات الصباغ مشيرا إلى حجم الجهد الكبير المبذول في البحث والتأليف والتحقيق والفهرسة، إضافة إلى جهد الكتابة- المصوغ بأسلوب أدبي- فهناك دائما مسودة أولى وثانية معدلة إلى أن تصل للطباعة. خاتما حديثه بالحديث عن علاقتهم وتعلقهم بها «كانت ليلى المثل الأعلى لنا لما تتمتع به من صفات أخلاقية وما وصلت إليه من مكانة بفضل جهدها ومثابرتها، لم تستسلم ليلى الصباغ رغم تقدمها في السن وما يصاحبه من وهن ومرض، بل كانت دائما مصرة أن على متابعة واجبها سواء في مجمع اللغة العربية أم بأبحاثها وكتبها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن