من دفتر الوطن

مطهر دمشق

| زياد حيدر 

في الوقت الذي اقتربت فيه دمشق من تطهير سمائها، من عدوان القذائف، ورغم كل ما يعنيه هذا عسكرياً وأمنياً واقتصادياً أيضاً، من الضروري أيضا أن نفكر فيما حصل، وكيف وصلنا إلى هنا، وذلك من دون إفساد فرحة النصر، ومن دون الترخيص بدماء الشهداء، عسكريين كانوا أم مدنيين.
في الطريق إلى فهم حجم الخندق المعنوي الذي حفر بين دمشق وريفها، والعمق الذي حفر به، يمكن ربما تفادي شروخ أعمق في نسيج الأمة، ووئامها المستقبلي. خلال أعوام من السفر، والعودة التقيت كثيراً من السوريين من غوطتنا، بين موالين ومعارضة، موالين من النوعين، النوع الوطني الصادق، المتألم لوطنه، والمخلص له في كل شيء، والنوع الوطني ولكن بطريقته، التي تسمح له بجني المكاسب، ولو من حساب هذا الوطن. ومن المعارضة أولئك الذين يعترفون بصدق بـ«سذاجتهم» و«سرعة اقتيادهم، خلف أفكار رومانسية مستحيلة» وآخرون أظن أنهم حتى اللحظة الراهنة يعتقدون أو يظهرون الاعتقاد أن حاجتهم للعسكرة وقتال الدولة واستدعاء الاعتداء الخارجي، وحرق العلم وكل الرموز الوطنية التاريخية ما زال مسوغاً ومطلوباً، ويجب الاستمرار في السعي نحوه.
من مثال هؤلاء، أرجح أولئك الذين يختارون دوماً الرحيل نحو إدلب.
والحديث عن إدلب يجب أن يكون عادلاً، فالمحافظة محافظة بلادنا، وزيتونها وأهلها مقدسون، ولكنها هنا تتعدى هذا أو بالأحرى تصغر عنه باعتبارها قاعدة اللجوء الأخيرة للمتطرفين والقتلة، وعملاء الخارج بكل أعلامهم القاتمة.
مثال هؤلاء الذين ما زالوا يعتقدون أن حاجتهم إلى العدو، سواء كان متمثلاً بنظام رجب طيب أردوغان، أو الأمريكي أو الدعم السلفي الخليجي، هي ملجؤهم، وأفقهم نحو خوض معركة العودة باتجاه دمشق وباقي المدن السورية.
أن تصل إلى هذا المستوى من إنكار الذات، ليس سببه العمالة فقط، فتلك لا تولد مع الشخص، ولا اليأس من الواقع الراهن والهرب منه، إذ ثمة واقع قادم أبشع منه، ولا الخوف من العقاب لأن ساعة العقاب الكبرى لم تحن بعد.
هذا المستوى من إنكار الذات سببه الجهل، وربما بعض الجبن. أما الجبن فلأن مواجهة الواقع تحتاج قدراً من الجرأة، وأما الجهل، فهو مستويات، بينها ما هو مذهبي، وبينها ما هو ضيق أفق، وبينها ما هو جهل بالانتماء الأوسع المتمثل بالهوية الجامعة لنا جميعاً.
يقع ضمن الحسابات طبعاً أن تكاثر الفارين من الدولة في مكان واحد هو إدلب، يصعب عملية الانقضاض عليها عسكرياً كما باقي المناطق، ولاسيما بسبب النفوذ التركي هنالك، والعلاقة القائمة بين أنقرة وموسكو. ممكن، لكن المهم هنا هو العودة للاختيار الأول للجوء في بابا عمرو حمص، وصولا إلى الغوطة، وهؤلاء جميعهم ببنية تفكير واحدة، ترفض الدولة، وترفض رموزها، وتفضل أعداء الأمة التاريخيين عليها.
مجدداً، من الضروري أن نسأل كيف وصلنا إلى هنا. الأعداد لا يستهان بها. مئات الآلاف من دون حساب من هو خارج الجغرافيا السورية. ومجدداً نكرر أن العمالة لا تولد مع الشخص، وإنما تستولي عليه راشداً وناضجاً وحراً في قراراته وسلوكه. لا يخفى على أحد منا، ونحن نحتفل بقرب انتهاء سيلان الدم على أرصفة دمشق، أن سورية، بحاجة إلى مراجعة تتعدى كل سؤال محرم، وكل خط أحمر سبق أن رسم في وجه الباحثين. رحلة الأسئلة طويلة، ولكنها يجب أن تبدأ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن