قضايا وآراء

كان لدمشق رأي آخر

| عبد المنعم علي عيسى

يشي المشهد السوري ما بعد الغوطة الشرقية، وبعد عفرين، بأن ثمة تحولات لا بد جارية على المكونين اللذين حملا السلاح فيهما على الدولة السورية، وفي الآن ذاته على شرائح واسعة مجتمعية كانت مرتبطة بهما بشكل أو بآخر سواء أكان ذلك قسراً أم بإرادتها، ولذا فإن من الممكن القول إن التصعيد الأخير الحاصل، الذي من المقدر له أن يستمر أو حتى يتصاعد في المرحلة المقبلة، سوف يكون وسيلة لفرض الواقعية السياسية على الأطراف التي رفضت، ولا تزال، أخذها بالحسبان في برامج أعمالها أو الطروحات التي تتقدم بها للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، فاليوم لم يعد هناك من حلف مفيد حتى ولو كان حلفاً «فاوستياً»، نسبة إلى الساحر الألماني فاوست، الذي تقول الأسطورة إنه باع زوجته للشيطان مقابل الحصول على القوة، فأميركا هي أكبر من فاوست وهي اليوم ترفع راياتها البيض.
مثلت معركتا الغوطة وعفرين هزيمة قصوى للمشروع الغربي والخليجي، وعلى الرغم من أن كلا الطرفين قد أدرك ذلك، إلا أنه من المتوقع أن نشهد العديد من ردات الفعل، بعد إخفاق الفعل، فما صرف كان بعشرات المليارات من الدولارات وهذي الأخيرة فقط كانت لإبقاء العاصمة السورية تحت تهديد الفصائل المسلحة التي كانت ترابط في الغوطة الشرقية، ولذا فإن القضاء على ذلك التهديد من شأنه، إضافة إلى تقسية القاعدة التي يقف عليها الجيش والدولة السورية، أن يؤدي أيضاً إلى انزياحات كبرى في أوساط الشرائح المعارضة المتبقية، فمهما قيل فلا بد أن نضع في اعتبارنا أن شعور الآخرين بقوة الدولة أمر من شأنه أن يؤدي إلى حدوث اختراقات كبرى في أوساط «المترددين» الذين كانوا ينتظرون معرفة من الفائز قبل تحديد مواقفهم، والأمر نفسه ينطبق على مجريات الأحداث الأخيرة في الشرق السوري، صحيح أن الحالة هناك تختلف لجهة وجود نزعة «قومية» مطعمة بنزعة «مظلومية» يمكن لهما وحدهما أن تنجحا في رص الصفوف وراء دعوات كالتي تبنتها القيادات الكردية في خلال السنوات الثلاث الماضية، إلا أن الصحيح أيضاً أن عملية الرص هذي سوف تفضي إلى نتائج عكسية تماماً في حال ثبت لـ«المتراصين» أنهم كانوا يسيرون وراء السراب، والمؤكد اليوم أن ذاك السراب قد تكشف جلياً في الشرق، وخصوصاً إذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعني ما يقول عندما أعلن قبل أيام عن نيته الرحيل عن سورية قريباً تاركاً للأطراف الأخرى تولّي الأمور، في مؤشر على إمكان إعطاء توكيل أميركي لفرنسا في ما يخص الملف السوري، الأمر الذي يجعل من عودة «رأس الأفعى» الفرنسية حدثاً مرتقباً وفي وقت قريب، وربما كان تصريح وزير الدفاع التركي عن قرب اجتياح قوات تركية للشمال السوري يوم الأحد الماضي تأكيداً لذلك، فأمر من هذا النوع سيدفع بالتأكيد بالأكراد إلى العودة نحو إعادة حساب حجومهم الحقيقية، والخروج من «استثنائية» القوة التي قيل لهم إن وحدات حماية الشعب الكردية تتمتع بها، بعد أن حشتهم بها الماكينة الأميركية الدعائية التي انطلت عليهم كل حكاياها، ففي يوم الأحد الماضي، تقول التقارير، إن الرئيس دونالد ترامب قد هاتف نظيرة التركي رجب طيب أردوغان، وفي السياق قيل إن الرئيسين أعادا التأكيد على الشراكة الإستراتيجية التقليدية بينهما، والعبارة الأخيرة تعني أمراً واحداً هو أنهما اتفقا على إزالة كل العقبات التي تحول دون عودة تلك الشراكة إلى سابق عهدها، والمؤكد أن في الذروة منها هم الأكراد، وفي المراجعة أيضاً لا بد وأن يعرج هؤلاء نحو موقف كان يحمل العديد من الإشارات والعديد من المؤشرات وهو بالتأكيد حز، وسيظل يحز طويلا، بالذات السورية، فعشية إعلان أنقرة عن عزمها على اقتحام عفربن راح الأكراد ينسجون على مغزل غير ذي حواف، وسريعاً ما تناثرت خيطانه من حوافه السائبة عندما وجهوا دعواتهم إلى دمشق للقيام بمسؤولياتها الوطنية تجاه حدودها، كانت تلك الدعوات محاولة لجر الدولة السورية إلى صراع مع الأكراد حتى ولو تم هدم البلاد فوق ساكنيها كرمى لعيني «روج افا» أو مهاباد هذا العصر.
نحن هنا لا نريد القول إن الصورة باتت وردية، فترامب وعلى الرغم من أن ما جاء على لسانه بشأن انسحاب قواته، تدعمه الواقعية السياسية، وله موجباته المهمة، وعلى الرغم من أنه عزز تصريحه بالإعلان في اليوم التالي عن تجميد 200 مليون دولار كان قد تعهد وزير الخارجية الأميركي الأسبق ريكس تيلرسون بدفعها إلى المعارضة السورية في مؤتمر إعادة إعمار سورية المنعقد في الكويت شهر شباط الماضي، إلا أن ذلك لا يعني أنه سيمضي حتماً في المسار الذي أعلن عنه، وربما كان الإعلان مدخلاً للعبور نحو «غردقة» أخرى، ولذا فإن الخشية من استخدام الجغرافيا السورية منصة لتفجير الشرق الأوسط برمته لا تزال قائمة، لكن ذلك لا يعني أيضاً أن تلك المشاريع الأميركية هي قدر المنطقة الذي يجب أن تستسلم له، بل على العكس من ذلك فإن التاريخ القريب شاهد على هزيمة العديد من المخططات الأميركية بدءاً من لبنان في ثمانينيات القرن الماضي وصولاً إلى العراق، والراجح هو أن صفقة القرن نفسها سوف تلقى ذلك المصير في القريب العاجل، وفي هذا السياق لا بد من القول إن حارات رام الله وموانئ غزة كانت تتراقص فرحاً خفياً قبل أن يتراقص حي «القيمرية» أو حي «الميدان» في دمشق، بعدما تناهت إلى مسامعها أخبار تحرير الغوطة بالكامل بمعنى عودة دمشق إلى فضاءاتها الرحبة السابقة.
الحرب في سورية أمام منعطفات عديدة ومهمة، وما أثبتته تلك الحرب هو أن البقاء هو لأولئك الذين نفروا دفاعاً عن أوطانهم ومدنهم وقراهم، ومن استكانوا فهم إنما كانوا يأخذون أذناً بالانصراف من التاريخ ومن الجغرافيا على حد سواء، وأن «الخارج» لا يهمه أن تسيل دماء أو يفنى العرب وكل ما يهمه هو أن يستمر جريان «النسغ» الكامل إليه.
يروي الراحل محمد حسنين هيكل أن زائراً مقرباً من صناعة القرار السياسي الأميركي كان قد زاره في العام 1974، وفي سياق الحديث ذكر الزائر أن لقاء كان قد جمعه مع أحد كبار الوزراء في حكومة الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون وأحد أعضاء الكونغرس الأميركي البارزين في لجنة التسليح، ويضيف: إن اللقاء كان قد حدث في أتون الأيام التي كانت تمر عصيبة على تل أبيب، أي في الأيام العشرة الأولى من حرب تشرين 1973، وبعد احتدام الحديث قال هذا الأخير: أنا أخشى أن يفقد هؤلاء الناس في تل أبيب أعصابهم ثم يلجؤون إلى استخدام واحدة من قنابلهم النووية الثلاث لردع الهجوم العربي، وليس يهمني ماذا سيحدث للعرب بعد ذلك ولكني أخشى أن انفجاراً ذرياً في هذا الوقت سوف يضع العالم على شفير الهاوية، انتهى الاقتباس والأفضل أن يظل بلا تعليق فهو عار بما يكفي لاكتشاف حناياه.
دمشق تعيش اليوم زهوة أيامها، والغار لفّ قاسيون من جميع أطرافه، أما الفرح فقد أضحى حقاً لكل السوريين يشهرونه على رؤوس الأشهاد برغم كل آلامهم الرهيبة، ولِم لا؟ وهم اليوم قد أيقنوا أنهم هم من قصدهم الراحل الكبير سعيد عقل حين قال: «أهلي ويغلون يغدو الموت لعبتهم إذا تطلع صوب السفح عدوان».
كادت المنطقة تدخل العصر الإسرائيلي الذهبي مرة أخرى لو لم يكن لدمشق رأي آخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن