قضايا وآراء

ترامب مابين الانسحاب أو التمهيد لانزياح الناتو

| محمد نادر العمري

على حين غرة وبتصريح واضح لا لبس فيه، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام جمهوره من فقراء ولاية أوهايو، ليعلن عن مغادرة قوات بلاده العسكرية سورية بوقت قريب جداً، دون تحديد موعد زمني، في كلام لا يتساوق مع الصراع المستمر في وجه موسكو وطهران ومع المصلحة الأميركية ضمن الخريطة الجغرافية السورية وفي إطار العلاقات القائمة بالنظام الدولي.
الصدمة التي أحدثها كلام ترامب ولاسيما أنها ترافقت مع قرار تعليقه مساعدات بقيمة 200 مليون دولار كانت مخصصة لجهود إعادة الإعمار، بدأت تُظهر مساحة اتساع الفجوة بين الرئاسة الأميركية ومؤسسات الدولة العميقة، ويزيد من واقع حالة الإنشراخ والتخبط داخل أروقة صنع واتخاذ القرار، الأمر وصفته صحيفة «واشنطن بوست» بأنه «مثير للقلق»، وقد يدفع العديد من المسؤولين الأميركيين وفي مقدمتهم وزير الدفاع جيمس ماتيس للاستقالة، وبخاصة أنه كان يعمل مع كبار مسؤولي وزارة الخارجية على سياسة مغايرة تماما خلال الأشهر الماضية، بل ذهب أبعد من ذلك عندما تحدث مع بداية العام الحالي عن تعزيز التواجد والتمثيل الدبلوماسي إلى جانب القوات العسكرية في الشمال الشرقي من سورية، واشترط عدم سحبه إلا بعد التوصل لاتفاق سياسي في جنيف.
الموقف ذاته من الحرج تعرضت له المتحدثة باسم البنتاغون دانا وايت التي أشارت قبل ساعات من تصريح ترامب إلى «أن القوات الأميركية ستعمل مع بقية الحلفاء في سورية لتأمين واستقرار الأراضي المحررة، إضافة إلى العمل الدبلوماسي لحل النزاع هناك» وفق وصفها، في حين نفت الخارجية علمها بمضمون تصريح ترامب، واعتبرت وفق بيان صادر عنها «أنه من المهم لأمننا الوطني الأميركي، أن نحافظ على وجودنا العسكري في سورية».
إعلان الرئيس الأميركي عن انسحاب من سورية، يتضمن عنصر المفاجأة من حيث توقيته وبعد أيام من احتدام التصريحات والتهديدات المتبادلة على خلفية حسم الغوطة الشرقية، وأثناء زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن، لكن ما كشفه ترامب بأنه سيخلي المكان للآخرين، يضعنا في تساؤلات متعددة: هل سينسحب ترامب من الشمال السوري فعلاً؟ أم سيعيد توزيع الأدوار مجدداً؟ وهل ستتحول القوى الكردية الانفصالية مجدداً إلى ضحية من ضحايا واشنطن والرئيس ترامب بالذات؟ وهل سيتخلى ترامب عن دعمه لإسرائيل وطموحها في القضاء على النفوذ الإيراني في المنطقة؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تجعلنا نقف أمام تقديرات ومؤشرات سياسية تستبعد صدقية واشنطن بالتوجه نحو هذا الخيار في الوقت الحالي على الأقل، نظرا لما سيترتب عليه من إذلال مكانتها على الصعيد الدولي وإعلان هزيمتها أمام روسيا ومحور المقاومة وضعف موقعها التفاوضي مع كوريا الديمقراطية ودفع أوروبا للتخلي عن الحماية الأميركية، إذا ما تفسيرات هذا التصريح أو الاحتمالات التي دفعت ترامب له؟
الأول: هو أن ترامب بعد زيارة محمد بن سلمان تم عقد صفقة تحدثت عنها الصحف الأميركية تزيد على 4 مليارات دولار لإنشاء ما يسمى «جيش سورية الجديد» لنشر نفوذ الأميركي غير المباشر وبسلاح أميركي استعرضه ترامب مع أسعاره بتمويل سعودي، وحديث ترامب أن أميركا قدمت 7 تريليونات دولار ولم تجن شيئاً، يأتي في سياق الابتزاز الاقتصادي للسعودية خاصة والخليج والقوى الكردية عامة، الأمر الذي يطرح تساؤلاً هل هذا الرقم صحيح؟ وهل أن أميركا دفعت ومولت ولم تجن مؤسساتها العسكرية نموا بمعدل 9 بالمئة على مدى السنوات الست السابقة؟ وفي أي سياق يأتي تمني محمد بن سلمان من خلال صحيفة «تايم» الأميركية: أن على واشنطن أن تبقي قواتها في سورية للتصدي للنفوذ الإيراني على مدى المتوسط على الأقل؟
ثانياً: يرغب ترامب حصر الصراع في المنطقة ضد إيران وبما يخفف الأعباء الناجمة عن صفقة القرن ونقل السفارة الأميركية للقدس، لذلك قد يلجأ للاعتماد على الدور التركي بما يؤدي نحو تعكير الأجواء مابين دول الترويكا لأستانة، وبخاصة أن أنقرة تعتبر حدودها امتداداً للناتو، الأمر الذي يعني التخلي عن القوات الكردية بقوات تركية وميليشيات ما يسمى «الجيش الحر» وجبهة النصرة من جانب، وهذا يفسر إقدام تركيا والتحالف الدولي على مهاجمة النصرة واحتوائها حتى في منطقة خفض التوتر بإدلب وتوظيفهم مجددا بعد إخراجهم من مناطق ريف دمشق، ومن جانب آخر السعي لانزياح نفوذ الناتو للشمال السوري بما يخفف أي خسائر أميركية مستقبلا ويحافظ على دورها ذات الوقت من خلف الكواليس وبما يتيح لواشنطن الاحتفاظ بدورها في التدخل أثناء العملية السياسية، وهذا يؤكد نصيحة السفير الأميركي السابق روبرت فورد بأن واشنطن اتخذت الأكراد مخلب قط على الأرض وأنها ستتخلى عنهم، وما تضمنته الورقة من عودة تركيا للفضاء الأميركي واحتوائها.
ثالثا: ترامب قد يلجأ للمراوغة في الملف السوري وجس نبض الروسي حول تسوية تضمن مصالحه في العراق وشراكة في جنيف وتعاوناً في ملف كوريا الديمقراطية، وهذا قد يمهد لعدوان مبني على عنصر المفاجئة، عبر دفع مؤسسات الدولة العميقة الرافضة أي تعاون أو شراكة مع الروسي على غرار ما حصل بعد اتفاق لافروف كيري في ميونخ، حيث أغارت الطائرات الأميركية على موقع للجيش السوري في موقع الثردة بدير الزور لإسقاط الاتفاق.
من المؤكد أن ترامب لم يكن ارتجالياً في تصريحاته وربما حاول الإيحاء لجمهوره بأنه في صدد تنفيذ برنامجه الانتخابي عبر الاهتمام بالشأن الداخلي، ووضع مصالح الشعب الأميركي فوق كل الاعتبار عبر الانسحاب من التدخلات العسكرية الخارجية، لذلك نواياه مبطنة فهو يريد تحقيق صفقات مادية مقابل ابتزاز دول الخليج والقوى الكردية المسيطرة على آبار النفط في الشمال السوري، بالتزامن مع الحفاظ على تواجده عبر دول الناتو «التركي والفرنسي» الذي لا يمكن أن يفرض نفسه كوسيط بين «قوات سورية الديمقراطية» وتركيا دون ضوء أخضر أميركي، فالتاريخ يؤكد بأن أميركا لم تنسحب في أي أزمة دون مكاسب لذلك يجب عدم الثقة بسلوكه، «فمن يجرب المجرب يكون عقله مخرب».

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن