الأولى

أردوغان والغزو الاستباقي

| بيروت – محمد عبيد

عدا عن التحالف الإستراتيجي الذي كان يجمع الولايات المتحدة الأميركية بالنظام التركي تاريخياً، يبدو أن هذا النظام يتوسل الأسلوب الذي درجت عليه الإدارات الأميركية المتعاقبة إثر تفجير برجي نيويورك الشهيرين في الحادي عشر من أيلول العام 2001، هذا الأسلوب الذي اصطُلِح على تسميته «الغزو الاستباقي».
وعلى الرغم من أن النظام التركي لم يتعرض لما تعرضت له الولايات المتحدة الأميركية في عقر دارها، إلا أنه يخوض حروباً استباقية ضد ما يعتقد أنه مضمرٌ في نفوس المكونات «القومية» و«العرقية» التي كانت ومازالت على صراع مزمن وموروث منذ أيام السلطنة العثمانية وصولاً إلى الحكم الحالي.
وإذا كانت السلطنة العثمانية بعنوانها «الإسلاموي» قد تمكنت من تذويب هذه المكونات ولو مرحلياً إلى حين تحولها إلى «رجل مريض» وتفكك أطرافها عنها وتضعضع واقعها السياسي- الاجتماعي وإعادة تشكيلها بقوة الحديد والنار، فإن نظام الرئيس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يحمل العنوان «الإسلاموي» نفسه أعاد إيقاظها نتيجة أسلوبه الديكتاتوري القهري في مقاربة مسألة وحدة تركيا وفي التوازن في تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين مكونات الشعب التركي.
لذلك صار هذا النظام مضطراً إلى نقل صراعاته الداخلية – التي كان آخرها مشروع الانقلاب الفاشل – إلى الدول المجاورة تحت عنوان حماية الأمن القومي التركي عبر الاندفاع إلى أوكار القوى المسلحة المعارضة لنظامه التي يصنفها «إرهابية» ومحاولة اجتثاثها من أرضها وفيها.
اليوم، وبعد تبدد حُلُم أردوغان في اقتطاع جزءٍ من الأراضي السورية واستعادة بعض من مساحة وسلطة الدولة العليا السابقة، يلجأ أردوغان إلى استباق النهايات العسكرية-السياسية المفترضة للأزمة في سورية من خلال تثبيت وقائع يعتبر أنها ستكون ملزمة للأطراف المعنية بصياغة هذه النهايات وخصوصاً منها الصديقين اللدودين: روسيا وإيران.
ولعل أبرز هذه الوقائع الدفع باتجاه تغيير ديموغرافي فعلي على الجهة السورية من الحدود توفر له ضمانة أمنية تقيه القلق الدائم من السكان الأصليين في تلك الجهة، كما تمنع إمكانية التواصل بينهم وبين الداخل التركي المتعاطف معهم أو المنتظر لإمكانية حدوث أي انقلاب جديد.
هذا التطور برز بشكل علني وواضح مع النزوح السكاني الكبير لأهالي مدينة عفرين وضواحيها إثر تقدم الجيش التركي لاحتلالهم، وهو ما يُظهِر الأهداف التركية من خلال هذا العملية العسكرية التي ارتكزت إلى الترويع والترهيب لإجبار السكان على المغادرة القسرية لمناطقهم وقراهم، على حين أنه كان يمكن الحفاظ على هؤلاء السكان في أماكن وجودهم بعد الانسحاب الطوعي للقوى التي كانت تواجه الاعتداء العسكري التركي.
على المقلب الآخر، لا يمكن إنكار تورط المجموعات الانفصالية الكردية في توفير الذريعة المطلوبة لنظام أردوغان، وذلك من خلال السعي والإصرار على إقامة كانتون عرقي بإدارة ذاتية بالترافق مع إزالة جميع أشكال الارتباط بالدولة السورية ومؤسساتها الشرعية، والأخطر العمل على تغيير الهوية الوطنية الجامعة القائمة على التنوع لتلك المنطقة من سورية، وذلك كله على الرغم من المحاولات السورية-الروسية-الإيرانية المشتركة لثنيهم عن خطواتهم تلك.
المؤسف أن البعض الانفصالي من المكون السوري الكردي المنتشر في شمال سورية وشرقها، والذي يَجُرّ الأكراد كافة إلى دفع الأثمان المضاعفة بسبب سياساته غير الواقعية، لم يتعظ من تجربة «الكيان البارزاني» وهاهو اليوم يواجه المصير نفسه الذي واجهه الكيان المذكور وخصوصاً بعد تخلي الراعي الأميركي عنه وفشل استجداء العطف والرعاية من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
في ظل سُلَم الأولويات التي تضعها القيادة السورية بالتنسيق والتفاهم مع حلفائها وأصدقائها فيما يعني استكمال تحرير سورية من الإرهاب والاحتلالات كافة، ربما سيتمكن أردوغان من توسيع شريط الحدود والإمساك به لفترة زمنية مقبلة، ولكن ذلك لن يغير من توصيفه كمحتل لجزءٍ من الأراضي السورية يستوجب تحريرها اليوم أو غداً تبعاً لتلك الأولويات. أما أسلوب التحرير وآلياته وتوقيته فيعتمد على الدور الذي سيلعبه الحليفان الثابتان لسورية روسيا وإيران لجهة عقلنة أردوغان أو تركه لمصيره المحتوم والمحكوم بمعادلة الخلاص من كل محتل مهما بلغت التضحيات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن