ثقافة وفن

العراضة الشامية ومظاهر الفرح الدمشقي بالمناسبات .. من مقاومة المستعمر إلى الفرح بالطفولة رحلة دمشق

| منير كيال

إذا كان لنا أن نتوقف بهذا البحث مع العراضة الدمشقية فإن ذلك لما كان لهذه العراضة من شأن. بموقف أهل مدينة دمشق من الحياة، بإصرارهم على حياة كريمة ملؤها الإباء، وديدنها الوفاء لهذا الوطن لما في ذلك من وفاء لأرواح الشهداء الذين قدموا حياتهم فداء لعزّة وكرامة وطنهم.
فقولهم بالعراضة:
دير المي عالصفصاف هي الشاغور ما بتخاف
دير المي عالطرخون هي الشاغور ما بتخون
لم يكن القصد هي الشاغور فقط، وإنما أهل هذه المدينة بل جميع أبناء وطننا العربي السوري، لما بذلك من تحدٍ لكل مغتصب أو محتل لتراب البلاد. وقد تمثل ذلك لدى الجميع من رجال ونساء شيب وشبان وأطفال. وبذلك قولهم بالعراضة:
أمي دلتني عالموت
أختي دلتني عالموت
على هلك على هلك
وين الموت وين الهلك
ذلك أن دم كل من أبناء وطننا الحبيب مجبولة بالفداء، كرامة لهذا الوطن، وصون ترابه، أكان ذلك زمن سيطرة الدولة العثمانية، أو خلال زمن الاستعمار الفرنسي ومن والاه لبلاد الشام.
يوم كانت الحجارة تجابه البندقية، والصدور تواجه رصاص المستعمر. فكان قول العراضة إزاء السيطرة العثمانية:
يا غليّم ويا غلام
لا تروح درب الشمال
بياخدك التركملي
بيعمل فيك كان مان
وبيعمل من جلدك رباب
وبالمقابل كان لهذه العراضة موقف إزاء تسلط المستعمر الفرنسي، والوقوف بوجه ذلك الاستعمار الذي كان شعاره زرع الفرقة بين المواطنين فكان الرد على المستعمر، وقوف جميع أبناء الوطن وقفة رجل واحد، ومما قالته العراضة بذلك.
دو دلاح يا دو دلاح
وين دشرتوا الملاح
بين طرفا، وبين حرفا
وبين عروق الزيزفان
خلينا المستعمر يدور
من الغوطة لأرض الزور
والقصد أرض الزور، هو أرض الزور التي بالغوطة الشرقية، ومنهم من يذهب إلى القول بأن القصد بها أراضي دير الزور شمالي شرق سورية، للدلالة على أن مقاومة المستعمر قد شملت كامل الأراضي السورية.
ولم يكن يهدأ لأي أحد البال ما لم يتحرر الوطن من الغاصب المحتل، فكان قولهم بالعراضة:
إجا الخبر بالليل
مدري شر مدري خير
يا فرج ولف عالخيل
يا اللـه ضهوره يا اللـه الخيل
يا اللـه ضهوره يا نشامى
وبالطبع كان القصد من ذلك أن يكون الجميع على ظهور خيولهم أهبة لمجابهة العدو.
فالعراضة والحال هذه، رفيقة درب حياة الجميع في حلهم وترحالهم وبكل زمان ومكان وقد تناولت هذه العراضة جوانب عديدة من الحياة كان منها:
الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف والعرس الشامي والختان (الطهور) كما اهتمت بعودة الحجيج من بيت اللـه الحرام والجميع يعيش بما تقول هذه العراضة حتى لكأنها تنطق بما في قلب كل واحد من المشاركين بها ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، قول العراضة لحجاج بيت الله الحرام:
يا سلام اكتب سلام
علي مظلل بالغمام
والغمامة غمته
غمته ما لمته
غمته خيفانة عليه
وعلينا وعليه
وعلى من زار قبره
حجت الإسلام لأجله
وذلك بموكب يتقدمه الفتيان بعراضة يقولون بها:
حجينا زاير نبينا
يوم القيامة يتشفع فينا
أما ما كان للعراضة بالعرس الشامي، فقد كانت هذه العراضة أحد أركان وخصائص هذا العرس فالعرس بلا عراضة لزف العريس، ليس له بهجة ولا رهجة، وبلا طنة ولا رنة كما يقولون، وبالتالي يشعر العريس بعدم مشاركة الآخرين له من الأحباب بفرحة العرس.
ذلك أن عراضة العرس تجعل المشاركين بها، على قلب واحد، والعرس مشاركة للفرح بذلك العرس، وهذه العراضة تخاطب العروس على لسان العريس بقولها:
ادللي يا عيني
على عنب الزينِ
ادللي يا خالة
على بنات الحارة
لطالعك العالية
العالية قصور البنات
بنات الشام العلية
ما تربح غير الصبية
ولسان حال العريس في مخاطبة العروس يقول:
يا مليحة هاو ديني
وإن أخذتك خذيني
وإن أخذتك لإحرق دلك
على صديرك لاعبيني
فترحب العروس بعريسها ليلة العرس بقولها:
يا ميت أهلا يللي كنت غايب وجيت
يا أعز الحبايب ما بيغلى عليك حبيب
إن غبت بتكدر، وإن جئت عيشي بطيب
سلامتك يا قمر من بين النجوم تغيب
ختاماً: القول كثير، لكن طبيعة البحث لا تسمح بالخوض بمجالات أخرى للعراضة الدمشقية.

الفرح بالطفولة والختان
سنقف بهذا البحث مع موضوع ختان الطفل، وما كان عليه ختان الأطفال لدى جيل النصف الأول من القرن العشرين، وما قبل، من احتفال بعملية ختان أطفالهم، وما يرافق ذلك من مظاهر اجتماعية اتّسمت بالفرح والحبور وتبادل التهاني بين الجوار، وأحياناً بين أحياء مدينة دمشق. وذلك بعد أن أصبحت عملية ختان الوليد من متّممات عملية الولادة، دونما شعور بأيّ غبطة أو مسّرة.
فقد عُرف الختان لدى الدماشقة في ذلك الحين باسم الطهور. ونذكر أنّه إلى عهد قريب كانت بعض الفئات بشبه الجزيرة العربية تقيم لذلك الختان المهرجانات الشعبية التي تُستعرض بها القوى لدى من يراد ختانهم، فيقبلون على هذه العملية دونما وَجل، لما هم عليه من حماس وعدم حسابهم أي حساب لما يعقب هذه العملية، وقد يرافق ذلك قيام ألعاب الفروسية بين المراد ختانهم، حتى إذا دبّ بهم الحماس وعدم المبالاة جرت عملية الختان، وكأن شيئاً لم يحدث.
وأحياناً كان من يُراد ختانه يمتطي صهوة جواده ويصول ويجول بين الأهازيج وأزيز الرصاص، حتى لكأنه يستعرض قواه، ويظهر بأسه ومقدرته وبراعته، ثم يرتجز، ويقف بين جموع الحاضرين، معلناً أنه مقدم على التحرّر من الجاهلية إلى الإسلام، وهو يباعد بين قدميه دونما وَجَل، بل من دون أن يمسك به أحد، فيعمد الخاتن إلى سلخ جلد بطن ذلك الشاب من السّرة إلى نهاية القضيب، وسيكون البحث مع ما كان عليه أبناء العامة، وأبناء الخاصّة بهذه العملية، وما يرافق ذلك من أفراح وتقديم التّهاني بهذه المناسبة ومن ثم سنتوقف بعض الشيء مع عراضة الطهور في ذلك الحين.
فقد كان الدماشقة يؤجلون ختان أبنائهم إلى ما بعد سِنّ الطفولة، حتى يفرحوا بهم. أيّ الاحتفال بذلك، على عكس ما هم عليه بهذه الأيّام حيث يجري ختان الطفل يوم ولادته.
ومنهم من كان يؤجّل ختان طفله ليكون مع ختان أقرانه بالحي، باحتفال مشترك، ذلك أن مناسبة الختان أو الطهور من المناسبات التي تحرص الأسرة التقليدية آنذاك، على الاحتفال بها، لأنها تكون بإطار يشارك به العديد من الأهل والجوار، وأحياناً أبناء الحي بل الأحياء الأخرى من مدينة دمشق، فالختان والحال هذه من المناسبات التي توطّدُ العلاقات الاجتماعية بين الناس، لما يرافق ذلك من واجبات التهاني والتبريك وتقديم الهدايا أو ما يُعرف بالنّقوط في تلك الأيام، وقد تكون تلك الهدايا من السمن أو السكّر أو الزيت أو الخراف أو النقود، ومن ثم المشاركة بالعراضة الخاصة بالمناسبة.
كان يسود ختان أبناء الخاصّة كأبناء المسؤولين والأغنياء، ومن والاهم، البذخ وأعمال البرّ، ويعمّ ذلك الحي، أو أحياء عدة من المدينة إذا لم يشمل ذلك مدينة دمشق، ونذكر من ذلك:
أنه لما عزم والي دمشق في العصر العثماني على ختان ابنه سنة 1156هـ قامت الزينات بمدينة دمشق، كما قامت الاحتفالات أياماً بلياليها، وأصبح اسم ابن الوالي أحمد على كل شفة ولسان لما رافق ذلك من سائر الملاعب وأرباب الغناء ومشاركة الأعيان والأكابر من الأفندية والأغوات وما إلى ذلك، وما زالوا على هذه الأحوال سبعة أيام بلياليها، وقد أمر الوالي بالزينة، فزينت أسواق الشام بإيقاد الشموع والقناديل، كما عُمل مركب ركب به الآغوات والأعيان والأكابر، وجرت بهذا المركب الألعاب الغريبة من تمثيل للشجعان.
كما عمد الكثير من أهل المدينة إلى ختان أولادهم وأمر الوالي أن يعطى كل ولد ختن بهذه المناسبة لباساً وذهبيّتين، فضلاً عن الإنعام على الخاص والعام والفقراء بألبسة وأطعمة.
أما طهور أبناء العامة فقد تميز بدور الحلاق الذي كان يقوم بهذه العملية إضافة إلى ممارسة الحلاقة للرجال والأولاد من الصِبْية.
ذلك أن الحلاق في تلك الأيام مسبّع الكارات، وبكل عرس له قرص كما يقولون، فهو المزيّن الذي يِرجّل ويقص شعر رأس الرجال ويعمل على فتل شارب الرجل أو الشاب بعد دهنة بمادة الزّباد، كما أنه يمارس عملية أخذ كاسات الهوا المعروفة باسم الحجامة، وكذلك القيام بعملية المصرف، ويعالج بعض الآلام كالأسنان ووجع الرأس والظهر، كما يقوم بتركيب ما يعرف باسم العلق لامتصاص الدم الفاسد من الجسم، ومن ثم قيام هذا الحلاق بختان الأطفال.
وكان يسبق عملية الختان هذه عراضة يشارك بها أبناء الحي وضيوف من الأحياء المجاورة احتفاء بهذه الحفل، وغالباً ما تكون نفقات هذه العراضة هدية لأهل المحتفى بختانه، فضلاً عن ذلك فقد كانت الزينة لهذه العملية لابُدّ منها، أكانت هذه الزينة على مستوى البيت أم مستوى الحيّ.
وكان الأطفال المزمع ختانهم يلبسون الثياب الجديدة، وهي على شكل قفطان أبيض من الحرير المطرّز، وشعر الواحد منهم مزين بالمجوهرات والورد ويركب كل واحد من أولئك الأطفال رهواناً مزيّناً بالخرز والأجراس، ويسير الجميع بالعراضة، فإذا وصلت العراضة إلى مكان الاحتفال تستقبل بالزغاريد كما تستقبل من أصحاب المحال التي تمر بها العراضة بالتصفيق ورشّ ماء الزهر على جمهور العراضة فضلاً عن إطلاق العيارات النارية.
وبينما يكون الطفل المراد ختانه منبهراً بالعراضة يكون الحلاق قد قام بعملية ختانه بخفّة، ثم يعطى الطفل بعد الختان قطعة من القماش مبللة بالقطران فيعلقونها بخيط برقبة ذلك الطفل، وهذا القطران يساعد على عدم إنكاء الجرح إذا شم الطفل رائحة أو قام بحركة عجلى.
وتعرف هذه القطعة من القماش باسم الشمّامة فإذا انتهت عملية الختان تجري تلاوة لقصة المولد النبوي، يوزع في نهايتها صرر مملوءة بالملبس، ثم يدعى الجميع إلى الطعام، فيوزع من ذلك الطعام على الفقراء والأسر المستورة.
وكان المختون يلبس بعد الختان قفطاناً يمسك به ويشدّه إلى الأمام حتى لا يمسّ جرح الختان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن