قضايا وآراء

اللعب على المكشوف

| سيلفا رزوق

لم يكن لأكثر المحللين براعة والمتابعين لمجريات المعارك التي يخوضها الجيش السوري في الغوطة الشرقية أن يتوقع السيناريوهات التي تبعت الاقتراب من إعلان الانتهاء من الملف الميداني الأكثر استعصاء لسنوات مضت.
وبين ليلة وضحاها وفيما كانت التحليلات تنحو باتجاه التداعيات المنتظرة والتوقعات حول الخطوة التالية للجيش السوري ومصير الوجود الأميركي شرقاً، ومآلات تعيين المزيد من الصقور في الإدارة الأميركية المنقسمة أصلاً على نفسها، حدث ما لم يكن في حساب المجموعات المسلحة والمجموعات الإقليمية الداعمة لها، فأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعلى نحو مفاجئ انتهاء عمل قواته في سورية ونيته الانسحاب منها، ليتبعه وخلال ساعات قليلة تصريحات سعودية على لسان ولي عهدها رفعت الغطاء علانية عن التنظيمات التابعة لها وبدت كإعلان رسمي بالتخلي عن المشروع برمته والخروج من اللعبة السورية إن صح التعبير.
عاصفة التأويلات التي لم تنته حتى اللحظة حاولت الإشارة دائماً إلى الأسباب والاحتمالات المتوقعة لهذه التصريحات ومآلات خروج واشنطن المفاجئ والتنبؤ بالأطراف التي ستملأ الفراغ الأميركي الحاصل دون أي ممهدات سياسية وإعلامية.
الاحتمالات بدت كثيرة والإجابة الأكثر صراحة جاءت من ترامب نفسه الذي أعلن أن جيشه وبصيغة ما بات مأجوراً عند من يدفع أكثر وزاد على ذلك بالقول إن السعودية والإمارات لم تمول كما يجب حملة الحرب على داعش، ليبقى التساؤل الوحيد الذي ظلّ من دون إجابة مفترضة حتى الآن هو من سيكون الطرف المخول بإدارة ما بقي من معارك على أطراف الحرب السورية؟ وماذا عن الاشتباك الحاصل شمالاً وجيوب الإرهاب جنوباً؟ وإلى أين سيسير هذا التداخل الإقليمي والدولي المعقد الذي تمثل الحرب على سورية أحد أبرز عناوينها؟
بالرجوع خطوة زمنية إلى الوراء وقبيل العاصفة التي أثارها ترامب، كان العالم يشهد فصولاً تصعيدية جديدة بين روسيا والغرب ظاهرها تسميم العميل الروسي المزدوج في بريطانيا، وحقيقتها محاولة بريطانية مكشوفة لتسميم العلاقات الروسية الغربية، والروسية الأميركية على وجه التحديد لسبب بدا مجهولاً حتى لحظة الإعلان الأميركي الأخير ربما.
عند التفكير في الطرف الدولي الأكثر ترجيحاً لاستلام إدارة كفة الملف السوري بالكامل، ومعه التحكم بملف المنطقة كله ستبدو روسيا في صدارة المشهد، والتحليل الموضوعي والمنطقي يشي بأن موسكو وببراعتها الدبلوماسية والعسكرية استطاعت الوصول إلى مفاصل القضية السورية برمتها، والتأثير فيها بصورة أدهشت وأربكت الجميع، وعليه وإذا ما أخذنا بالحسبان عقلية ترامب التاجر وإشارته المتكررة للتريلونات المهدورة فلن يكون مستغرباً القول إن روسيا ستكون الطرف الدولي الأقرب لتصدر هذه المهمة، وبناء صيغ إقليمية جديدة طويلة الأمد.
ضمن هذا السياق يمكن فهم أحد أسباب التحرك البريطاني والغربي ضد روسيا، ومحاولات الإمبراطوريات الاستعمارية الآفلة، العودة بالزمان إلى الوراء، بدت غير واردة، مع انكشاف الخديعة البريطانية وتمكن موسكو من استيعاب ما يجري، ليبدو مشهد المحاولات البريطانية الفرنسية مكشوفاً لأبعد الحدود.
التمعن بصورة ما يجري بطريقة أشمل وبالنظر لتفاصيل التصريحات السعودية الأخيرة، يتيح لنا إدراك أن السياسة الأوروبية ليست وحدها المكشوفة اليوم، وبأن كل الأطراف بدأت تفضل اللعب فوق الطاولة أو «على المكشوف»، حيث لم يعد الحديث السعودي عن تقاسم المصالح مع إسرائيل التي لها الحق بأن تعيش في وطن بسلام، أمراً معيباً أو مستهجناً، ولم يعد الإعلان الرسمي عن ضرورة التحالف مع إسرائيل الصديق المحتمل الجديد ضد إيران العدو «العقائدي» المتجدد، مجرد تخمينات وتحليلات تنفيها مقالة من هنا وتصريح من هناك، فالعائلة المالكة السعودية أيضاً لم تعد ترغب في اللعب بالخفاء وفضلت الخروج بعلاقاتها مع إسرائيل إلى العلن، وزادت أكثر بدعوتها القوات الأميركية للبقاء بسورية في إشارة منها إلى استعدادها لدفع التكاليف ما دام الأمر يبقي بيد أميركا أوراق ضغط تحتاج إليها السعودية في ملف بعيد بالجغرافية ويصل إلى حدود اليمن حيث حربها غير معروفة النهايات حتى الآن.
الحرب السورية وإن بدت على الخرائط حرباً مرسومة الحدود بدقة غير أن حدود التداعيات تظهر مفتوحة أكثر مما يعتقد الكثيرون، ومقولات إن العالم سيتغير بعد الذي يجري، لم تعد مجرد شعارات يتغنى بها المحللون ويتزين صدر صفحات الجرائد بها، فالعالم بالفعل يتغير وما كان يرسم بالسر ويحكى عنه بالأروقة بات معلوماً، ربما الجميع باتوا يفضلون اليوم «اللعب على المكشوف»، تحت ضغط تغير قواعد اللعبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن