ثقافة وفن

خمسون عاماً مع الإذاعة والعشق لا ينتهي … هيام الحموي… الماء يحفظ ذاكرة ما غصّ فيه… وأنا أشرب من سورية التي سكنتني… فبمائها كلّ الذاكرة

| سوسن صيداوي

تنسى الحزن وتتذكر الفرح. عذبة الصوت. بسمتها بطاقة لفتح القلوب في رقة ذائبة لطفها ودماثتها. حضورها الواثق مما تريده فضولها المشروع والراقي. تمسّكها بمبادئها، ورفضها للتنازل أو المساومة، هي كلّها مع الكثير من غيرها، صفات لشخصية، كانت وما زالت، الأقرب للمستمعين على مدى سنوات، ستصبح خمسين عاما عما قريب، إنها الإعلامية هيام الحموي، والملقبة بـ«هيومة»، سكنت الراديو، ويمكننا أن نقول بأنّ الراديو قد سكن فيها، لأن في داخل هذه السيدة الشامخة، طفلة، وفتاة، وامرأة تتمسك بالحب، وباللون الأبيض. سعيها للمثالية حقيقة يعرفها كل محب، أما الآخر فهو مدرك لهذه الحقيقة وضمنيا معترف بها. اليوم أكتب عنها، وهي في الأساس قدوتي ومثلي الأعلى، تربيت على صوتها، وكانت حلما أرسم معه محطات من حياتي، بأن أمتهن الراديو وأكون (مذيعة راديو)- لهذا يجوز لي أن أبدي حبا وعرفانا لها- وسأكتفي بهذا القدر لأن في اللقاء الذي جمعتنا به جمعية تاء مبسوطة بصالونها الثقافي- الذي تقيمه الجمعية بشكل شهري- مع السيدة هيام الحموي، والذي قامت بإدارته لمدة ساعتين ونصف الساعة- مضت وكأنها دقائق- رئيس مجلس إدارة الجمعية السيدة ديانا جبور، وللجمعية الفضل بأن نتعرف على محطات مهمة من حياة هذه القامة السورية الجادة بتجميل صورة الإنسان السوري ودفعه نحو الأفضل. هيام الحموي سنترك لها الحديث عن الكثير من مفاصل حياتها الشخصية والمهنية الإذاعية، إليكم بها.

طيب الكلمة

بدأت جلسة الصالون الثقافي السيدة ديانا جبور، مشيرة في حديثها إلى الانتقاد الدائم والموجّه إلى إعلامنا المحلي السوري، والذي بنظر الكثيرين غير قادر على استقطاب الجماهير لعدم مصداقيته، مشددة على عكس الفكرة ما دام بيننا إعلاميون عمالقة كالسيدة هيام الحموي، قائلة «ننتقد إعلامنا بشكل دائم بأنه لا يصنع نجوماً، ونبرهن على صحة الإدعاء بأن مذيعينا يصبحون نجوما عند انتقالهم إلى محطات خارجية، برأيي هذا نصف الكأس الفارغ، لكن نصف الكأس الممتلئ تبرهن عليه الإعلامية القديرة والقدوة هيام الحموي، فبانتقالها إلى محطة ما، الإعلامية لا تصبح نجمة، بل المحطة نفسها هي التي تكسب النجومية، لأنها عندما تنتقل إلى مكان ما، لا تبخل عليه بل تعطيه من روحها وثقافتها، ومزاجها العالي والإيجابي، ليصبح الاتقان سمة المكان، وهذا أقوله انطلاقا من تجربة خاصة كنت قد مررت بها عندما قدمت زاوية إذاعية على غرار الزاوية الصحفية المكتوبة في إذاعة شام إف إم، وخاصة أنّ هيام الحموي تسعى بأن يقدم كل من حولها عملا متقنا، انطلاقا من فكرة: يكبر المرء ويعلو شأنه مع محيطه. إذا هي لا تقوم بتصغير من يعملون معها، أو تسعى جادة بتحويلهم إلى أنقاض كي تقف عليهم، لهذا بالنتيجة، جميع من قامت بتدريبهم يلقبونها بـ«هيومة»، اللقب الذي يجمع كل الامتنان والحب والمودة لهذه السيدة. وبالنسبة لحياتها المهنية ففي مثل هذا الوقت الربيعي من قبل خمسين سنة كانت بدأت بمشوارها الإذاعي في إذاعة دمشق، مترافقة مع صديقتها السيدة منى كردي. سيرة نجاح هيام الحموي سيرة نجاح مؤكد ولكنه غير سهل، من محطاتها الإذاعة السورية، سي إن إن، مونت كارلو، الشرق. ومن برامجها يوميات مذيعة في باريس، دردشة على ضفاف السين، نص الجو، دهب الزمان إضافة إلى الكثير.

هيومة من البداية
كيف كانت البداية مع هذا الرباط الذي دام إلى قريب الخمسين عاما، تفاصيل تحدثنا عنها الإعلامية هيام الحموي «بدأت في مثل هذه الأيام الربيعية في عام 1968- طالبة أدب فرنسي- مع زميلتي العزيزة منى كردي التي أخبرتني، بأنه في إذاعة دمشق شاغر بالقسم الفرنسي لتقديم نشرات الأخبار، وفي إذاعة دمشق تعلمنا قواعد المهنة الأساسية، بل ما تعلمناه فيها منحنا زوادة هائلة من الخبرة والمعلومات التي صقلت عملنا في كل محطاته اللاحقة. بعدها سافرت إلى فرنسا، بسبب منحتي الدراسية- من العشرة الأوائل على الدفعة- ولأن الرواتب كانت تتأخر، هذا الأمر دفعني للعمل فترات متفاوتة في أعمال متنوعة- ولحظي الجيد كان في الإذاعة الفرنسية قسم عربي، ومن هذا القسم أخذت إذاعة مونت كارلو مذيعيها، وكنت من أول الأصوات التي أعلنت افتتاحها. طبعا كان هناك إضافات لما تعلمته في إذاعة دمشق، ولأن مهندسي الصوت كانوا فرنسيين، كان الأمر يأخذ وقتا طويلا كي يستوعبوا ما أريده من أغان أو تقنيات على الهواء، لذا تعلمت أن أعمل كل ما هو مطلوب في برامجي بيدي، سواء مونتاج أو موسيقا أو اختيار الأغاني، وفي هذه المرحلة صحيح كان العمل أصعب من الوقت الحالي، مع عدم وجود انترنت أو يوتيوب، إلا أنني كنت أبحث وأتأكد من المعلومة عبر المجلات والصحف من الصباح الباكر، كي أكون واثقة ومتأكدة من أي معلومة كنت سأقدمها في البرنامج الصباحي».

الإدارة وحرية الإبداع
في النجاح هناك شريك، ربما يكون الجهد المبذول، أو السعي الجاد في إثبات الذات، أو ربما يكون الشريك شخصا إداريا قادرا على احتضان موظفيه، ودفعهم بشكل دائم لتقديم الأفضل، وحول هذا الأمر تحدثت هيام مستندة إلى تجاربها التي تنوعت بأكثر من مكان «كانت الإدارة في مونت كارلو متمثلة بشخص رائع اسمه أنطوان نوفل مدير البرامج، الذي يعطي ثقته للمذيع ويدفعه للعمل، وكان أي شخص يستفسر حول ما أقوم به كان يرد (تركوها)، لقد تركني على راحتي مدة تسعة عشر عاما ونصف العام، ولكن في النصف الأخير، تغيرت سياسة الإدارة بسبب تغيّر السياسة الفرنسية وظهور النظام العالمي الجديد، والتي جاء معها مجموعة من الأشخاص لم يرغبوا بي ولا بالطاقم الذي كان يعمل وقتها في الإذاعة، الأمر الذي دفعني لترك إذاعة مونت كارلو. في اليوم التالي جاءني اتصال من مدير إذاعة الشرق- الذي كان قد طلب مني في وقت سابق أن أعمل معه وكنت قد رفضت- معاودا الطلب، فقلت في نفسي وقتها (سبحانك يا ربي كيف بتسكرها من جهة وبتفتحها من جهة ثانية) فذهبت وعملت في إذاعة الشرق مدة عشر سنوات، ومع حادثة الحادي عشر من أيلول تغيرت السياسية العالمية من جديد، الأمر الذي دفعني للاستقالة، وبالرغم من أن مونت كارلو عاودوا الاتصال بي للعمل معهم، إلا أنني دخلت في فترة وجدت فيها نفسي غير راغبة في العمل الإذاعي، وبين الذين اعتبروني شخصا نخبويا أو شخصا كلاسيكيا، وجدت نفسي غير راغبة في المتابعة، وكنت انتقلت إلى الكتابة ومراسلة صحف ومواقع، إلى أن ظهر مدير عام إذاعة شام إف إم سامر يوسف، حيث اتصل بي وكنت في وقتها قابعة في يأسي، وقال لي (نريد أن نعمل إذاعة). أجبته (اعملوا). فقال (نريد أن نعمل إذاعة وأنتِ فيها). فقلت (هل تعلم كم عمري؟). أجاب (طبعا أعرف.. لأني بسمعك من لما كنت طفل صغير). فقلت له (ولكنني أضع أكتر من أغنية للسيدة فيروز في البرنامج الواحد). فقال (هذا ما أريده). وعلى هذا الأساس تم الاتفاق، وبدأ مشواري مع إذاعة شام إف إم، المرحلة الأساسية الثالثة في مشواري الإذاعي. وبالعودة لموضوع حرية الأداء في العمل، مدير إذاعة شام إف إم احترم المساحة الكبيرة التي أعمل خلالها والتي يمكن أن أسميها (من دون رقابة)، وبالطبع أشكره كثيرا على الحرية التي منحني إياها، وهنا أحب أن أركز على نقطة مهمة بأن المؤسسات والإدارات هي من تسمح لنا بأن نقدم الأفضل أو العكس.

عن السبق الصحفي
العادات متغيرة، والأسلوب مختلف بين زمننا وزمنهم. وبين الصحيح واللاصحيح يلهث عشاق الشهرة إليها وحتى لو كانت سلبية، وحول السبق الصحفي ذكرت الحموي حادثة «في مرة كان مدير برامج مونت كارلو انطوان نوفل، في اجتماع نقابي إداري، جاءت السكرتيرة وهمست بأذنه أمرا دفع به للخروج وترك الاجتماع، وعاد بعد قليل وكان مضطربا، لكنه خرج من جديد، بعدها علمنا أنه خلال الاجتماع كان قد وصله خبر مقتل السادات، وبدلا من أن يعمل سبقاً صحفياً وينشر الخبر على الهواء مباشرة، قام باتصالاته كي يتأكد من مصر ومن عدة مصادر أخرى ومن بعدها نشر الخبر. اليوم الأمر معاكس تماما، فبمجرد نشر خبر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الكثيرون للأسف يروجون للخبر ويعاودون نشره من دون التأكد من مصداقيته».

عملاقة بين العملاقة
خلال المشوار الإذاعي التقت هيام الحموي العديد من الشخصيات المتنوعة التي لا تنتمي لشيء- بالرغم من تباينها وتلّونها في الحياة- إلا لما هو جميل ويجب تسليط الضوء عليه، وحول هذه اللقاءات تقول «كنت أسعد جدا بالسوريين الذين كانوا يأتون إلى باريس، ودائما أسعى بأن أضيء على ما كانوا يفعلونه في سورية، أما عن مرحلة وجودي في إذاعة مونت كارلو فمن أجمل لقاءاتي، لقائي نزار قباني، بينما من أهم لقاءاتي في إذاعة الشرق حواري مع الدكتور عبد السلام العجيلي، فهو إنسان لا يشبه إلا السوريين، وكلامه كان دائما مؤثراً وعميقاً، ويمتلك إنسانية حقيقية، وأيضا حظيت بحوار مع الممثلة المصرية سعاد حسني، في الفترة التي كانوا سينقلون الموجة لرقم ثان في إذاعة الشرق، حيث التقينا معها في مهرجان سينما، وقلت لها إنني أريد استضافتها. في البداية رفضت، لكنني اقترحت عليها أن تكون هي المذيعة وأنا مساعدة لها فوافقت. كانت المقابلة جدّ مؤثرة- وخاصة أنها احتجبت عن الأضواء والشهرة بعد أن ساكنها المرض، وما بقي لها من الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام إلا البحث عن تفاصيل من حياتها قد تكون مؤذية، فاللقاء معها ترك الأثر الكبير لصدقها وخفة دمها وذكائها وعمقها، وأنا سعيدة لأنني حصلت على فرصة حوارها أولا، ومن ثم كي يظهر الجانب الإنساني منها بشكل أكبر».

اللقاء مع نزار قباني
كما أشرنا أعلاه تعتبر هيام الحموي بأن من أجمل لقاءاتها، كان لقاؤها مع شاعر المرأة نزار قباني، وفي التفاصيل تقول «لم أبحث عن نجومية الفنان أو الضيف الذي أحاوره بقدر ما كان يهمني ما يقدمه الضيف للناس، وإلا فلا داعي لاستضافته. وفي حال لم يكن لدي شيء مهم أقوله على الهواء، أكتفي بوضع أغنية جميلة وأترك المتعة للمستمع. وبالعودة للضيوف والشخصيات التي قابلتها، أغلبها كان يوافق على إجراء المقابلة، لكن بعضهم كانت ظروفهم تمنعهم، ومنهم العظيم نزار قباني، وأقول عنه العظيم لأنه إضافة إلى إبداعه الأدبي والشعري، فهو إنسان يشبه نفسه وليس لديه شخصيتان متناقضتان، بين ما يكتبه وما هو عليه. عندما دعي إلى باريس- كان مقيما في لندن- كلفوني إجراء لقاء معه في مونت كارلو، فذهبت لاستقباله في الفندق وكان هذا بعد وفاة زوجته بلقيس وصدور قصيدته بلقيس، هناك وجدت رجلا حزينا جدا، فعرّفته بنفسي، فقال ليس لدي رغبة بالكلام، والحزن الذي في أعماقي وضعته كلّه في القصيدة. فاحترمت رغبته وحزنه وعدت أدراجي إلى الإذاعة. ربما شخص غيري كان أخذ منه تصريحا وقام بسبق صحفي، لكن أمراً كهذا لا يمكن القيام به مع شخص مثل نزار قباني، وأيضا مكانتي لا تسمح لي بذلك. ومن حسن حظي أن مديري كان متفهما، واقترحت عليه بأن نسجل قصيدة بلقيس ونبثها بشكل متقطع على مدار اليوم. بعدها توفي محمد عبد الوهاب وكنا سنقدم برنامجاً عنه، فاتصلت بالدكتور صباح قباني، لكن الأخير قال لماذا لا تكلمي أخي نزار، فأجبته (أخاف أن يقول لي بأنه حزين).
فقال (لا اتصلي به وسيتحدث). فعلا اتصلت وأخذت منه تسجيلا. هنا لابد أن أشير إلى أنه تحدث- بعد أن ختم باسمه-عن قصص أخرى عن عبد الوهاب، فقلت له (مازلنا نسجل ما تخبرنا به، هل تسمح لنا بأن نبثه). لكنه رفض وتابع قائلا (أنتِ احترمتِ حزني في الفترة الماضية، إذا أتيتِ إلى لندن، أنا على استعداد لإجراء مقابلة معك). فقلت (أكيد). تابع (حضّري الأسئلة وأرسليها لي). كنت سعيدة بما حصل وذهبت إلى مديري وطلبت أن أجري المقابلة فقال لي مديري (ما أهمية هذا الشاعر؟) قلت (وكأنك جمعت أندريه بروتون مؤسس الحركة السريالية وجاك بريفير أرق شاعر فرنسي، وإذا منعتني من الذهاب سأذهب على حسابي الشخصي وأعطي المقابلة لإذاعة أخرى). فقال (لا اذهبي) فتابعت (لكن هذا الشاعر عندما يتكلم يجب ألا نحذف شيء من كلامه).

فوافق مديري وأخذت إجازة مدة أسبوع وقرأت كل دواوينه وحضّرت الأسئلة وأرسلتها لنزار قباني، فوافق. عندما وصلت إلى الفندق كان قد ترك لي كتاباً (قصتي مع الشعر) لأنه سألني عند اتصالنا به إذا قرأته، وأجبته حينها بأنني لم أجده في مكتبات باريس، فترك مع الكتاب رسالة (لا تأتِ إلي دون أن تقرأي هذا الكتاب) فقرأته وأضفت بعض الأسئلة وذهبت. يفترض أن تكون المقابلة مدة ساعة، لكنها استمرت أربع ساعات- كان يقول في وقتها خمسون عاما من الشعر وأنا مسرورة اليوم بأنه سيصبح لدي خمسون عاما من الإذاعة. قلت له هذه المقابلة يمكن أن تتحول إلى مسلسل، بالطبع لم يعترض، عندما عدت أخبرت مديري بما حدث، وبأنّ الأربع ساعات يمكن أن نبثها على شكل حلقات متتالية، ولكن لأن مديري الفرنسي يمتلك عقلا تجاريا، طلب بأن يكون المسلسل تحت رعايته، فرفضت لأن نزار قباني يجب ألا يكون برنامجه برعاية أحد وهذا احترام لاسمه… وفي النهاية كان لي ذلك».

في الإحراج يبقى الموقف
في حياة المرء هناك مواقف محرجة وهناك مواقف مضحكة، وأيضا هناك المواقف التي تعبّر عن المبدأ والقناعات التي يتمسك بها، وحول ما تعرضت له الإعلامية هيام تقول «نعم تعرضت إلى مواقف حرجة، فعندما تغيّرت الإدارة في مونت كارلو، وضعت الإدارة الجديدة سياسة جديدة، وأصبحت مهتمة بأمور كانت في إدارة أنطوان نوفل وهو ممنوع تخطيها، منها بأن يكون عندهم مراسل في تل أبيب، أو وضع اليد على معهد العالم العربي الذي كنا فرحين بما يستضيفه من فعاليات ثقافية. والذي حصل بأنه في سنة1991، كانت سيدة إسرائيلية تذهب إلى المناطق الفلسطينية، وتعتني بالأطفال الفلسطينيين وتشتري لهم الكتب والدفاتر، بحجة عدم تركهم المدرسة، وبالمقابل كان هناك مخرجة مغربية تصنع فيلماً عن هذه السيدة وتريد عرضه بمعهد العالم العربي، ولأنهم يريدون الترويج للفيلم، والقيام بمقابلة مع السيدة الإسرائيلية والسينمائية المغربية، كان قرار الإدارة- أنني من بين عشرة زملاء من مختلف الجنسيات- انتقائي للمقابلة المذكورة، فرفضت واقترحت زميلاً فرنسياً فلسطيني الجنسية لديه جواز سفر إسرائيلي، بالفعل تمّ تكليفه، ولكن في الساعة العاشرة صباحاً عندما جاء الضيوف، كان المدير يُجري اجتماعاً طارئاً، ويقول لي: (نحن مضطرون بأن تقومي أنت بهذه المقابلة). بالطبع كان الأمر محرجاً ولكنني طرحت أسئلة تقليدية، وعندما انتهيت من تسجيل المقابلة قمت بعملية المونتاج واقتطاع القسم الذي فيه صوتي، وكتبت الأسئلة لزميلي وقلت له (لقد كان مقرراً بأن تقوم بالمقابلة بدلاً مني، لذا عليك وضع هذه الأسئلة بصوتك). بالطبع عوقبت على ذلك من مديري. أحب أن أذكر هنا بأن زميلتي المصرية فريدة الشيباشي تعرضت لمثل هذا الموقف فقد كان عليها أن تقوم بمقابلة مع شيمون بيريز، لكن هي كانت أكثر مني مواجهة، على حين خرجت أنا من الموقف متسلحة بالحنكة والدهاء.
وأيضا يمكنني أن أذكر موقفاً آخر ولكنه أقل إحراجاً عندما طلبوا مني العودة إلى مونت كارلو في2002، كانت قد تغيرت الإدارة عدة مرات، وكان المدير فرنسياً ولا يعرفني، وقتها سألني (ما الشيء الذي ترفضين أن تقومي به؟)، قلت: (ألا أقوم بأي مقابلة مع شخص إسرائيلي). فقال: (لن تقومي بأمر كهذا). وعلى أساسه قبلت العمل. بعدها بفترة كان في فرنسا (يوم المثليين العالمي)، وكان مطلوب من كل المذيعين بأن يقوموا بلقاءات ومقابلات مع أشخاص مثليين أو مثليين مضطهدين من العالم العربي، وفي اليوم نفسه كنت حضّرت في برنامجي حواراً مع شخصية مهمة، واستطعت أن أنقذ نفسي من هذا الموقف. هنا أحب أن أؤكد بأنني لست ضد أحد، فكل شخص حر، ولكنني لا أحب هذا الانفلاش الذي يظن به الآخر، بأنني إن لم أكن معه فأنا اضطهده».

الصوت ليس معياراً
لكل مهنة معايير ومفاتيح لابد من امتلاكها كي ننجح بها، وحول ما يجب على مذيع الراديو التسلّح والتمسك، تقول هيام: «أنا لا أضع الصوت في الدرجة الأولى، بل يجب على المرء أن يعرف تماماً ما يريد قوله وهو على الهواء، وأن يمتلك الثقة بأنه يقدم أموراً مميزة للآخرين، وأن يكون المذيع صاحب فضول وأفق واسع، ولديه مفردات المهنة من اللغة العربية السليمة، والقراءة المتمكنة. أما بالنسبة لي، لا يهمني ما يقولونه عني، المهم ما يصل للناس، ودائماً أسعى بأن أكون صاحبة تأثير. وللأسف اليوم أصبحت المؤسسات الإعلامية توظف لديها أيا كان، الأمر الذي عكس على هذه المهنة طابع الاستسهال غير الصحيح، وأصبح أغلب الظن بأنّ كل من يستطيع الحديث والضحك على الهواء ممكن أن يكون مذيعاً، وبالطبع هذا أمر خاطئ، فالأمر يحتاج إلى دراسة ومقومات وتدريبات».

في الزواج والأطفال
الصدق في الشعور، والصدق في الكلمة، أمران لا يمكن لأحد أن يسمع أو يتكلم مع هيام الحموي إلا أن يلمسهما، وعن الحب والزواج تتكلم بصدق يلمس القلب مباشرة، مسترسلة عن هذه المحطة المهمة في حياة كل إنسان، «أفكاري غريبة حول هذا الموضوع، بمعنى كنت أشعر بالخوف من الالتزام والارتباط، إلى أن قرأت مرة للكاتبة الفرنسية كوليت تقول على الرغم من أنها متزوجة لثلاثين عاماً، إلا أنها تنام وزوجها في غرفتين منفصلتين، ولكن هنا الأمر الجميل، بأنه طوال تلك المدة لم يرها إلا وهي بكامل أناقتها، وأنا أحب هذه النقطة بأنه يجب على من يحبنا أن يرانا ونحن بكامل أناقتنا. بالطبع أنا فخورة جداً بأهلي وبتعاملهم معي والذي كان نادراً، فقد خُطبت عندما كان عمري 14سنة، فسألني أبي هل أرغب في الخطبة، فقلت له (لا)، فقال لي وقتها (أنا لن أفرض عليك أحداً، لكن أنت أيضاً لا تفرضي عليّ أحداً)، بالطبع قبلت الشرط وعملت بالاتفاق. لقد كان أبي رجلاً راقيا ومتفهما، أما أمي فقد حزنت لحالي وعزوفي عن الزواج، وكلّما سألها الناس كانت تقول (البنت ما كمّلت دراستها بعد). في الواقع نشأت في عائلة نساؤها يتمتعن بشخصيات قوية ومستقلة، وهذا أمر صعب ولا يقبل به أحد. وبصراحة تامة قراري بعدم الزواج والإنجاب وتربية الأطفال ليس بسبب الإذاعة، فالأخيرة لم تكن عائقاً، أنا تفرغت لهذه المهنة لأنني أحبها، ولو فكرت بالزواج لكنت تفرغت لعائلتي، أنا أحب أن أعطي الأمور حقها، ولم ترق لي أنصاف الحلول. هذه قناعاتي وهنا أؤكد بأنني لا أحب أن يظن أحد بأنني أروّج لهذه الأفكار التي تخصّني وتناسبني، وليس على أحد أن يفعل مثلي، فأنا صادقة مع نفسي جداً وأعيش مع قناعاتي».

فرصة لم تسنح
الطموح والفضول كما أسلفنا مفاتيح على المذيع التسلّح بها لتحقيق هدفه المنشود في الاستمرار بمهنته، هي كانت تواقة وطامحة جداً للقاء الكثير من الشخصيات، منهم من حالفه الحظ والفرصة سنحت له، ومنهم من عانده القدر وكان أسرع منه، ومنهم ما زال الأمل واعداً مع الأيام القادمة، وحول ممن تتوق المذيعة هيام أو كانت تواقة تحدثنا «كان لدي فضول كبير حول شخصية الرئيس حافظ الأسد، وكنت أتمنى لقاءه كي أتمكن من معرفة التفاصيل التي أختصرها بالعبارة التالية: (ماذا تفعل السلطة بالرجال؟)، ولم أحظ بمناسبة أو بفرصة. وحتى اللحظة أحلم بلقاء السيدة فيروز، وللآن لم تحدث المعجزة».

عمل وإنسان وأزمة
أزمة الحرب السورية فرضت مخلّفاتها علينا جميعاً، وانتشرت سلبياتها بيننا، وبغض النظر مما كان يحاصرنا من ظروف وأصوات، كان لابد لنا من التمسك ببصيص الأمل على قيد الحياة الأفضل، وعن هذه المرحلة تخبرنا هيام «لا أعرف إذا كنت قدمت رسالتي خلال الأزمة، ولكن الأمر الذي أعرفه ومتأكدة منه، كنت أقول لفريق العمل معي، بأن علينا أن نخرج من الحالة المفروضة، بأن نتخيل مثلاً بأننا ننتقل إلى كوكب مشابه للمكتوب في قصة (آليس في بلاد العجائب)، على الرغم مما يحيط بنا من أجواء صعبة ومخيفة، وما نسمعه من أصوات، وعلى هذا الأساس كنت أقدم برنامجي لأشعر المستمع بأننا موجودون وسيكون كل شيء على ما يرام، واكتشفت كم تمتلك أغاني فيروز ومسرحيات الرحابنة من الزخم الكبير في التجربة، والذي يمكننا الاستفادة منه، وكأنها قُدمت من أجلنا على الرغم من أنه تم تأليفها منذ خمسين سنة أو أكثر لحروب أخرى، وبالفعل عشت هذه الحالة وعودت نفسي عليها، فعندما أسمع أغنية (أحب دمشق) أشعر بالراحة والطمأنينة.

خمسون سنة في مشوار
في كلمتها الأخيرة الكثير من الكثير «حتى اللحظة لم أكتف من مهنة الإذاعة، فكل ما يصادفني في الحياة، أتخيله كمادة إذاعية سأقوم بتقديمها. خمسون عاماً إذاعياً مرت من عمري مسرعة، شعرت خلالها بالمتعة والسعادة، وأيضا عشت معها الحزن والخيبات، وفيها بكيت وضحكت، لكنني اليوم لا أتذكر، ولا أريد أن احتفظ إلا بالأمور الجميلة، ولابد لي أن أقول بأنني مدينة لسورية بالكثير لمّا ذهبت إلى باريس، لم أكن مدركة بما فعلته سورية في داخلي، ولم أكن عالمة كم كنت محيطة لثقافتها من خلال عائلتي، واكتشفت بأنني أعرف كل الأغاني السورية، وكل الطرب العربي، وأتقن الطبخ الذي لم أتعلمه. لقد أخذت سوريتي معي إلى باريس، واكتشفت بأنني أعرف رفيق شكري ونجيب السراج وصباح فخري والأغنية القديمة والعود والنقش بندي، فكلّهم كانوا معي. وبالمختصر (الماء يحفظ ذاكرة ما غصّ فيه)، أنا شربت وأشرب من ماء سورية، وفي الماء السوري كلّ الذاكرة، لهذا عاشت بي طوال غربتي الذاكرة السورية، وأنا أعتبر عرض سامر يوسف مدير عام شام إف إم، هدية منحتني عمراً إذاعياً جديداً وأنا مدينة له، وهو ما أعادني إلى أذهان الناس، وأكثر من ذلك لا أريد شيئا».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن