ثقافة وفن

سلامات… التينة العتيقة

نصر الدين البحرة : 

كانت عادتنا، صباح الأول من كل عيد، أن نلتقي في بيت عمتي في حينا القديم- مئذنة الشحم- بعد أن نكون قد زرنا ضريح والدي في «الباب الصغير» ووضعنا عليه الآس وسفحنا عليه بعض الماء البارد.
.. كان بيت هذه المرأة الطيبة، ملتقى أفراد الأسرة جميعاً، فتسقينا من قهوتها- وما زلت أذكر من أيام الطفولة كيف كانت تعدها على ما تسميه «البابور» الساكت- وتقدم لنا الضيافة فنتبادل الأحاديث والأفكار والنكات.. ثم يمضي كل إلى سبيله.. وكل عام والجميع بخير.
وبعد أن فارقت عمتي الحياة، بقيت أزور حينا، فأمر لزيارة الأصدقاء والأصحاب، ومن بقي من الأهل.
.. بين هؤلاء الذين أحببت «أبو عزة»، وهو ليس من جيلي، لكن أخاه محمداً كان رفيقي في الحارة.
وفي الحقيقة فإن زيارتي إياه هذه المرة، كانت للاطمئنان أكثر منها للمعايدة، فقد انهارت أجزاء من بيته، وواجه الرجل صعوبات كثيرة..
ولهذا الانهيار قصة، لم يستطع مهندسو البلدية أن يضعوا يدهم على سرها فهم لا يعرفون أن التلة التي ينهض عليها هذا البيت، وتدعى «تلة النجارين» تطوي تحتها بقايا القصر الملكي الآرامي الذي دمره وضربه الآشوريون قبل ثلاثة آلاف سنة تقريباً..
ولم يكن هذا الصرح الواقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من دمشق، عند طرف السور هناك تماماً، قصراً فحسب، بل كان أيضاً قلعة دفاعية، كما هو الحال في المباني المشابهة في ذلك الزمن، حيث يقيم الملك أو الإمبراطور.. وحيث يتحصن في قلعة، هي موقع دفاعي قوي في الآن ذاته.
ويخيل إلي أن هذا هو سر التخلخل في بعض أبنية التلة المذكورة، وهو الذي أدى إلى ذلك الانهيار في بيت أبي عزة.
قعدنا في أرض الديار، في ظل شجرة التين، تحيط بنا أحواض النبات وأصص الزهر، ويواجهنا قاسيون بعمالقة الإسمنت التي تقف أمامه كمردة أسطوريين، والبيوت التي تناثرت على سفحه.. كأنها كلمات فكت من أجمل قصائد الشعر..
أخذ الرجل يتكلم، ولم أكن أفتح فمي إلا بكلمات صغيرة عابرة، قال: إن أولاده، يصرون على إحالته على التقاعد، يريدون منه أن يقعد فقط مرتاحاً خالي البال، بعد أن شارف السبعين..
ولقد تضافروا جميعاً لئلا يشعر بحيف حين وقع الانهيار.. وأعانوه بأقصى ما عندهم من قوة وإمكان- وهم جميعاً عاملون- لإخلاء الدار من الأتربة والأنقاض، والترميم والإصلاح..
وهم الآن مسؤولون عن كل شيء في البيت.. وبين وقت وآخر يضعون في يده، بعض المال، وإنهم ليفعلون هذا كله، دون أن يحاول أحد منهم، أن يصدر أي كلمة أو إشارة، قد يشعر أبو عزة أن فيها بعض المنّ.
.. وإذ فرغ الرجل من حديثه، خطر لي أن أسأله عن عمر شجرة التين التي كنا نتفيأ ظلالها، وأذكرها من أيام الطفولة، حين كنت أزور أخاه محمداً، غير أنها لم تكن فارعة باسقة هكذا.
قال: هذه زرعتها أمي، في هذا الموضع قبل سنين طويلة.. كنت أنا ما أزال طفلاً.. في تلك الأيام لم تكن المغاسل في كل البيوت، فكانت أمي تنظف مواعين الطعام في هذا الموقع، بعد أن تأتي بالماء، من بئر كانت في أول الزقاق، وإذ تنجز عملها، فتسفح ماء التنظيف، حدث أن انجرفت هذه التينة معه عدة مرات.. لكنها كانت تسارع إلى إعادة غرسها في هذا المكان ذاته.
كنت أعرف جيداً، وقد اقتربت الساعة من الثانية عشرة، أن الحرارة غدت في الخارج مرتفعة، لا تطاق، غير أني في ظل التينة التي نيف عمرها على السبعين عاماً، كنت أحس، بلطف الفيء.. وبأن نسيماً عليلاً يتحرك بين أغصانها العالية.
وجاء أحد أبناء مضيفي بصحن فيه ثمار تين قطفت قبل قليل فوضعه على الطاولة أمامنا، والتفت إلى أبيه يسأله أن يسمح له لكي يتسلق التينة فيقطف ثماراً من أغصانها المتسامية.
ابتسم أبو عزة لولده دون تصنع وقال:
– يا بني نحن نقطف.. من الأغصان القريبة، أما العليا فهي للعصافير والطيور التي تزورنا، ألا يجب أن ندع شيئاً.. لله..
ومثلما يحدث في الصور السينمائية، فإن الرجل كان يبتعد عن عيني رويداً رويداً، ليتداخل مع التينة العتيقة.. الصامدة.. الصامتة.. الصابرة.. المعطاء.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن