ثقافة وفن

وقفة مع مدارس الطب والبيمارستانات…أهم المراكز الطبية والحضارية في دمشق شاهدة

منير كيال

تمتع الدماشقة عبر العصور، بخصائص عرفوا واشتهروا بها، فقد عرف عنهم رقة الحاشية، ولطف المعشر، ورحابة الصدر، والتجمّل، والاستغناء والبرّ، فجعلوا من ذلك طابعاً خاصاً لمدينتهم، وقد تمثل ذلك بعلاقاتهم وطباعهم، بل سلوكهم وتقاليدهم، وتعاطيهم وتطلعاتهم إلى الحياة، فقد وطدت أشكال التحاب والتعاضد، أواصر الألفة والمحبة والإيثار والوفاء بين أبناء هذه المدينة «دمشق» ولعل من أشكال هذا التعاضد.وقوفهم بالسراء والضراء إلى جانب بعضهم البعض، على مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وبالطبع فإن نصرتهم للظالم، يجعله يكف عن أذى الآخرين أو التعدي عليهم، وجعله يذوب في بوتقة المصلحة العامة حباً وكرامة فقد كان أسلافنا يحلّون أو يعالجون الإشكالات التي تقع بينهم في مجالسهم، دونما حاجة إلى المحاكم، ومن كان له حق مع إنسان آخر، كان يلجأ إلى أحد الوجهاء في الحي، أو من كان في حكمه ويقول له بعد أن يعقد له طرف الشملة (الزنار):

إيدي بزنارك تأخد لي حقي من فلان!!
فيقول له وصلت إلى الحق إن كان لك حق.
ثم يسمع من الطرفين.. ولا يخرجان من عنده، إلا وكلاهما على غاية من الرضى والقبول، ولو كان ذلك على حساب (نفقة) الوجيه فكل إنسان حقه يرضيه.. والصلح سيد الأحكام.
ومن أشكال ذلك التعاضد قناعة الإنسان بما كتب الله له من رزق فلا ينظر إلى الآخر نظرة حسد، وإنما نظرة الإيثار والمحبة حتى لكأن اللقمة إذا كانت في فم الواحد منهم تكاد تكون للآخر على مبدأ:
ازرع الخير لجارك.. تجده في دارك.
كما أن من مظاهر ذلك التعاضد والمشاركة بالمشاعر، خروج الخيالة ومنهم أبو علي الكلاوي وصحبه في المناسبات وهم بلباس الفروسية الكامل على صهوة جيادهم، يتقدمون المواكب الشعبية التي تقام بالمناسبات الوطنية والاجتماعية، وقيام أولئك الفرسان بسباق الخيول (الخيل) بالساحة التي بسفح جبل قاسيون بالمهاجرين، مشاركة منهم لأفراح الشعب في مناسباته الوطنية بل حتى في أفراحهم الاجتماعية وبالطبع فإن هذا ينسحب على ألعاب السيف والترس التي كانت من أبهج مظاهر التعاضد والتحاب في مناسبات الأفراح والاحتفال بالمناسبات الدينية كعيد المولد النبوي وعودة الحجيج سالماً، وبالطبع فإن هذا التعاضد لم يكن في حال من الأحوال وقفاً على المشاعر، بل تعداه إلى النواحي المادية من هدايا وسمن وسكر وأرز.. وما إلى ذلك.. مساعدة منهم للحاج أو أهل العريس، للقيام بواجب الضيافة والترحيب بالمباركين والمهنئين.
وكان الرجل إذا أراد أن يزوّج ولده، والبيت ضيق عليه يستأذن جاره بالسماح له ركوب (ارتفاق) جدار مشرفة دار هذا الجار كي يبني غرفة يزوج بها ابنه، فما يكون من ذلك الجار إلا أن يقول:
يا جار ابنك هو ابننا.. وإذا حيط (جدار) المشرفة ما حمل غرفة لعرس ابنك.. فإن اكتافنا بتحمله يا جار…
ولم يكن ذلك التآزر والتعاضد والتناصر، مقصوراً على المناسبات الدينية والوطنية ومناسبات الأفراح.. وإنما شمل المناسبات الأخرى كالكوارث والأرزاء التي قد تحل بالبلد.. أو بإحدى الأسر من الأهل والجوار والمعارف.
ومن ذلك موقف أهل دمشق من الحريق الذي حل بالجامع الأموي سنة 1893م ذلك الحريق الذي أتى على الأموي بأقل من ثلاث ساعات.. يومها هب أهل دمشق وسارعوا إلى إعادة الحياة إلى الأموي حتى إنه لم يعد بدمشق صاحب صنعة إلا ووضع نفسه تحت تصرف الأموي أما الموسع عليهم فحدث ولا حرج عن سخائهم وبذلهم، وهكذا فإن أهل دمشق على سائر نحلهم وتعدد مستواهم المعيشي وأصحاب القول والرأي لم يتوانوا عن طبع هذه المدينة بطابع الخير والنفع العام، ومن ذلك الأموال التي كانت لكف الأذى عن الآخرين، كالأموال التي تدفع ثمن الأواني التي تنكسر مع الأطفال ومن في حكمهم من الأجراء والصناع عن غير قصد.. حتى لا يتعرض هؤلاء إلى الأذى من ذويهم أو معلميهم.
ومن أعمال الخير التي كانت منتشرة بدمشق ما كان على شكل منشآت خيرية أو سُبلان، فقد كان بدمشق عدد لا يحصى من السبلان تنتشر بأحيائها القديمة، وهذه السبلان لتوفير مياه الشرب للبيوت أو الدور التي لا تمتلك عدَّاناً «حقاً» من مياه الطوالع التي تتمون من مياه نهر بانياس وقنوات، قبل أن ينتشر استخدام مياه عين الفيجة بدور مدينة دمشق كافة. وهم بذلك لم يهملوا الدواب والسوائم من السبلان الخاصة بها.
كما أن من أوجه الخير التي أوقف لها أهل دمشق الأوقاف الخاصة والجرايات الدائمة مرجة الحشيش التي كانت تعرف باسم الملعب البلدي قبل أن تقوم على أراضي ذلك الملعب أجنحة معرض دمشق الدولي، فقد كان هذا المرج وقفاً للسوائح والحيوانات التي في حال لا تقدر به على الاستخدام من أصحابها أكان ذلك بالركوب عليها «امتطاؤها» أم النقل لشتى أنواع السلع عليها.
ومن جهة أخرى يجدر بنا الإشارة إلى أن حمامات مدينة دمشق على تعددها واتساعها وتوزعها بأنحاء مدينة دمشق كان أكثرها من المنشآت الخيرية التي تقدم الماء الطهور الحار والبارد اللازم للطهارة فضلاً عن النظافة.. وكان الاستحمام بهذه الحمامات بلا مقابل على الأغلب.. حتى إن منها ما كان يُستحم به المرء ويتناول قرصين من الصفيحة (اللحم المفروم على العجين المخبوز) مجاناً لقاء تلاوة سورة الفاتحة عن روح باني هذا الحمام أو ذاك.
وقِس على ذلك أوقافاً خيرية أخرى لتقديم اللوازم التي يحتاج إليها طلبة العلم الوافدون إلى دمشق من أنحاء متعددة من البلاد والأقطار العربية فضلاً عن تقديم الطعام والسكن لأولئك الدارسين.
ولعل من الطريف أن نذكر ما كان من أمر وقف حبس الميت.. فقد كان يرجأ دفن الميت ما لم يُسدد ما عليه من ديون أو ذمم للآخرين فإذا لم يكن للمتوفى من يسدد ما بذمته للآخرين، كان ذلك الوقف يلتزم بذلك حسبة لوجه الله تعالى.
وحري بنا ونحن بهذا المجال، التوقف بعض الشيء مع مدارس الطب بدمشق وبيمارستاناتها، تلك المنشآت التي كانت تقدم الخدمات الطبية للناس على سبيل البر وأهم مدارس الطب التي كانت بدمشق:
مدرسة الداخورية في محلّة الصاغة القديمة، بالقرب من باب الزيادة للجامع الأموي، وهي تعود للطبيب مهذب الدين بن عبد الرحيم المعروف باسم الداخور، أنشأها سنة (725هـ) وكان الداخور أوحد عصره، وفريد زمانه بالطب.
ثم هناك المدرسة الدنيسرية غرب باب البيمارستان النوري بسيدي عامود (الحريقة) أنشأها الطبيب عماد الدين الدنيسري.
وكان من هذه المدارس الطبية: المدرسة النجمية وقد أنشأها نجم الدين محمد بن اللبددي سنة (624هـ) وهي خارج سور مدينة دمشق أما البيمارستانات فقد كانت من المنشآت التي اقترنت بمدينة دمشق وهي للعناية بأصحاب العاهات والمرضى والبؤساء وقد كان بدمشق عدد من هذه البيمارستانات لعل أهمها:
البيمارستان الذي كان بالقرب من الباب الشرقي لمدينة دمشق، ويعنى هذا البيمارستان بعزل المصابين بمرض الجذام منعاً للعدوى وانتقال المرض إلى الأصحاء، ويعود هذا البيمارستان إلى زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
وثاني هذه البيمارستانات وهو أهمها شأناً ويعرف باسم البيمارستان النوري في محلة الحريقة بدمشق، وقد بناه نور الدين الشهيد بالقرن الثاني عشر للميلاد بمال فدية دفعها أحد ملوك الصليبيين كان أسيراً لدى نور الدين وذلك سنة (595هـ) فكان هذا البيمارستان من أهم مشيّدات العصر الأيوبي، وقد تميز بنمط بنائه وقد امتاز بناء هذا البيمارستان بالمقرنصات الفريدة التي تطرز مدخله، وغنى هذا المدخل بالكتابات المنقوشة.. ووراء هذا الباب دهليز مغطى بقبة مضلعة قائمة على عنق مخروطي فوقه مقرنصات متتالية.
في صحن هذا البيمارستان (باحته) إيوانان غنيان بالزخارف الخطية والنوافذ ذات الزخارف الجصية البديعة.
وقد كان هذا البيمارستان أهم المراكز الطبية بالعالم الإسلامي في ذلك الحين وقد ذكره الرحالة ابن جبير الأندلسي وقال إن بهذا البيمارستان قومة (عمّال) بأيديهم السجلات الخاصة بأسماء المرضى والنفقات التي يحتاجون إليها من الأدوية والأغذية وكان الأطباء يبكرون إليه صباح كل يوم، يتفقدون المرضى، ويحددون حاجة كل مريض من الدواء والغذاء.
وهذا البيمارستان وقف للفقراء والمساكين، وقد ظل هذا البيمارستان مستمراً في عمله حتى بدايات القرن العشرين، حيث بُني مشفى الغرباء (الوطني) وكان لهذا البيمارستان أوقاف كثيرة للإنفاق على متطلباته.
وكان البيمارستان القيمري غربي جامع الشيخ محيي الدين من البيمارستانات الدمشقية المهمة، كان يصرف عليه من أوقاف عديدة لمعالجة المرضى وإيوائهم ودفع جعالات الأطباء والممرضين وسائر العاملين الآخرين.
فضلاً عن هذا فقد كانت واجهة هذا البيمارستان من أجمل واجهات الأبواب هندسة، فضلاً عن إيوانه والقاعتين القبليتين وكذلك القاعتان اللصيقتان بهما.
وفي الختام كان من الممكن الوقوف على شواهد أخرى من المراكز التي كانت بمنزلة كليات علمية عسى أن يُتاح لنا الوقوف عندها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن